فصل: هدايا الإمام لغيره

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****


أمارة

التّعريف

1 - الأمارة لغةً‏:‏ العلامة‏.‏

وهي عند الأصوليّين‏:‏ الدّليل الظّنّيّ، وهو ما يمكن التّوصّل بصحيح النّظر فيه إلى مطلوبٍ خبريٍّ ظنّيٍّ‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - الدّليل‏:‏

2 - الدّليل‏:‏ هو ما يتوصّل بصحيح النّظر فيه إلى مطلوبٍ خبريٍّ قطعيٍّ أو ظنّيٍّ‏.‏ وقد يخصّ بالقطعيّ‏.‏

ب - العلامة‏:‏

3 - الدّليل الظّنّيّ يسمّى أمارةً وعلامةً، إلاّ أنّ الحنفيّة اصطلحوا على أنّ الأمارة ليست بشهرة العلامة، بل العلامة أشهر‏.‏ والعلامة لا تنفكّ عن الشّيء، بخلاف الأمارة‏.‏

ج - الوصف المخيّل‏:‏

4 - الوصف المخيّل يفيد الظّنّ الضّعيف، أمّا الأمارة فإنّها تفيد الظّنّ القويّ‏.‏

د - القرينة‏:‏

5 - القرينة كثيراً ما تطلق على الأمارة، والعكس كذلك، غير أنّ القرينة قد تكون قاطعةً‏.‏

الحكم الإجمالي

6 - عند الأصوليّين ما ليس عليه دلالة قاطعة، بل عليه أمارة فقط كخبر الواحد والقياس، فالواجب على المجتهد أن يعمل بموجب هذا الظّنّ الّذي ثبت عنده بهذه الأمارة، وهذا بخلاف المقلّد، لأنّ ظنّه لا يصير وسيلةً إلى العلم‏.‏

ويأخذ الفقهاء بالأمارات، ففي معرفة القبلة يستدلّون بهبوب الرّياح، ومطالع النّجوم‏.‏

وفي البلوغ يرى أغلب الفقهاء أنّ نبات شعر العانة الخشن أمارة على البلوغ، وكذلك يرى البعض أنّ فرق أرنبة الأنف، وغلظ الصّوت وشهود الثّدي، ونتن الإبط، أمارات على البلوغ‏.‏

7- وفي القضاء‏:‏ الحكم بالأمارات محلّ خلافٍ بين الفقهاء، منهم من يرى الحكم بها قولاً واحداً عملاً بقول اللّه سبحانه‏:‏ ‏{‏وجاءوا على قميصه بدمٍ كذبٍ‏}‏‏.‏ روي أنّ إخوة يوسف لمّا أتوا بقميص يوسف إلى أبيهم يعقوب، تأمّله فلم يجد فيه خرقاً ولا أثر نابٍ، فاستدلّ بذلك على كذبهم‏.‏ فاستدلّ الفقهاء بهذه الآية على إعمال الأمارات في مسائل كثيرةٍ من الفقه‏.‏ وقد خصّص العلامة ابن فرحونٍ الباب المتمّم السّبعين من تبصرته في القضاء بما يظهر من قرائن الأحوال والأمارات وحكم الفراسة، وأيّد الحكم بها بأدلّةٍ من الكتاب والسّنّة، وذكر ما يربو عن ستّين مسألةً منها ما هو متّفق عليه، ومنها ما تفرّد به بعضهم‏.‏ والبعض لا يأخذ بالقرائن، مستدلّاً بما أخرجه ابن ماجه عن ابن عبّاسٍ قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لو كنت راجماً أحداً بغير بيّنةٍ لرجمت فلانة، فقد ظهر منها الرّيبة في منطقها وهيئتها ومن يدخل عليها»‏.‏

والتّفصيل في مصطلح ‏(‏قرينة‏)‏ وفي الملحق الأصوليّ‏.‏

إمارة

التّعريف

1 - الإمارة بالكسر، والإمرة‏:‏ الولاية، يقال‏:‏ أمر على القوم يأمر، من باب قتل فهو أمير‏.‏ وأمر يأمر إمارةً وإمرةً‏:‏ صار لهم أميراً‏.‏ ويطلق على منصب الأمير، وعلى جزءٍ من الأرض يحكمه أمير‏.‏

والاصطلاح الفقهيّ لا يخرج عن هذا المعنى في الجملة، إلاّ أنّ الإمارة تكون في الأمور العامّة، ولا تستفاد إلاّ من جهة الإمام، أمّا الولاية فقد تكون في الأمور العامّة، وقد تكون في الأمور الخاصّة، وتستفاد من جهة الإمام أو من جهة الشّرع أو غيرهما، كالوصيّة بالاختيار والوكالة‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - الخلافة‏:‏

2 - الخلافة في اللّغة‏:‏ مصدر خلفه خلافةً‏:‏ أي بقي بعده، أو قام مقامه‏.‏

وهي في الاصطلاح الشّرعيّ‏:‏ منصب الخليفة‏.‏ وهي رئاسة عامّة في الدّين والدّنيا نيابةً عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم وتسمّى أيضاً الإمامة الكبرى‏.‏

ب - السّلطة‏:‏

3 - السّلطة هي‏:‏ السّيطرة والتّمكّن والقهر والتّحكّم، ومنه السّلطان وهو من له ولاية التّحكّم والسّيطرة في الدّولة، فإن كانت سلطته قاصرةً على ناحيةٍ خاصّةٍ فليس بخليفةٍ، وإن كانت عامّةً فهو الخليفة، وقد وجدت في العصور الإسلاميّة المختلفة خلافة بلا سلطةٍ، كما وقع في أواخر عهد العبّاسيّين، وسلطة بلا خلافةٍ كما وقع في عهد المماليك‏.‏

تقسيم الإمارة، وحكمها التّكليفيّ

4 - تنقسم الإمارة إلى عامّةٍ وخاصّةٍ‏:‏ أمّا العامّة فالمراد بها الخلافة أو الإمامة الكبرى، وهي فرض كفايةٍ، وينظر تفصيل أحكامها في مصطلح ‏(‏إمامة كبرى‏)‏‏.‏

وأمّا الإمارة الخاصّة‏:‏ فهي لإقامة فرضٍ معيّنٍ من فروض الكفاية دون غيره، كالقضاء والصّدقات والجند إذا دعت الحاجة إلى ذلك التّخصيص‏.‏

وقد يكون التّخصيص مكانيّاً، كالإمارة على بلدٍ أو إقليمٍ خاصٍّ‏.‏ كما يكون زمانيّاً، كأمير الحاجّ ونحوه‏.‏ والإمارة الخاصّة من المصالح العامّة للمسلمين والمنوطة بنظر الإمام‏.‏

«وكان الرّسول صلى الله عليه وسلم ينيب عنه عمّالاً على القبائل والمدن»، وفعل ذلك الخلفاء الرّاشدون‏.‏ وعدّها أصحاب كتب الأحكام السّلطانيّة من الأمور اللّازمة على الإمام، فيجب عليه أن يقيم الأمراء على النّواحي والجيوش والمصالح المتعدّدة فيما لا يستطيع أن يباشره بنفسه‏.‏

إمارة الاستكفاء

5 - هي‏:‏ أن يفوّض الإمام باختياره إلى شخصٍ إمارة بلدٍ أو إقليمٍ ولايةً على جميع أهله ونظراً في المعهود من سائر أعماله‏.‏

ويشتمل نظر الأمير في هذه الإمارة على أمورٍ‏:‏

أولاً‏:‏ النّظر في تدبير الجيوش‏.‏

ثانياً‏:‏ النّظر في الأحكام، وتقليد القضاة‏.‏

ثالثاً‏:‏ جباية الخراج، وأخذ الصّدقات‏.‏

رابعاً‏:‏ حماية الدّين، والذّبّ عن ديار الإسلام‏.‏

خامساً‏:‏ إقامة الحدود‏.‏

سادساً‏:‏ الإمامة في الجمع والجماعات‏.‏

سابعاً‏:‏ تسيير الحجيج ‏(‏إمارة الحجّ‏)‏‏.‏

ثامناً‏:‏ قسم الغنائم‏.‏

وحاجة الأمّة قد تستدعي إضافة مهامّ أخرى بحسب ما يجدّ من أحوالٍ، كرعاية شئون التّعليم والصّحّة ونحوها‏.‏

شروط إمارة الاستكفاء

6 - يشترط فيمن يولّى إمارة الاستكفاء ما يشترط لوزارة التّفويض‏:‏

فمنها شروط متّفق عليها وهي‏:‏ الإسلام، والتّكليف ‏(‏العقل والبلوغ‏)‏، والذّكورة‏.‏

ومنها شروط مختلف فيها وهي‏:‏ العدالة والاجتهاد والكفاية‏.‏

ولا يشترط ‏(‏النّسب‏)‏ اتّفاقاً في الإمارة‏.‏ وللتّفصيل ينظر مصطلح ‏(‏إمامة كبرى‏)‏‏.‏

صيغة عقد إمارة الاستكفاء

7 - لا بدّ لتقليد الإمارة من صيغةٍ كسائر العقود، فيتحدّد نوعها بالصّيغة، فتعمّ الإمارة بعموم الصّيغة، أو تخصّ بخصوصها‏.‏ كأن يقول في الإمارة الّتي تعمّ التّصرّفات مثلاً‏:‏ قلّدتك ناحية كذا أو إقليم كذا إمارةً على أهلها، ونظراً على جميع ما يتعلّق بها‏.‏ إلخ‏.‏

نفاذ تصرّفات أمير الاستكفاء

8 - يجوز لأمير الاستكفاء أن يقلّد من يعيّنه في تنفيذ مهامّه لأنّه معيّن له، ونائب عنه في مباشرة الأعمال الّتي لا تتيسّر مباشرتها للأمير نفسه‏.‏ ولكنّه لا يجوز له أن يفوّض لشخصٍ آخر ما عهد إليه من أصل الولاية إلاّ بإذن الإمام، لأنّه مستقلّ النّظر‏.‏

إمارة الاستيلاء

9 - الأصل في الفقه الإسلاميّ‏:‏ ألاّ يتولّى أحد منصباً إلاّ بتقليدٍ صحيحٍ من الإمام، أو من ينوب عنه في ذلك كوزير التّفويض‏.‏ على أنّه في بعض الظّروف، قد يحدث أن يستبدّ أمير أو والٍ بالسّلطة، بعد تولّيه بتقليدٍ من الإمام‏.‏ ويخشى فتنة في عزله، فللإمام أن يقرّه على إمارته‏.‏ وقد ذهب جمهور الفقهاء إلى صحّة هذا التّقليد من الإمام للضّرورة، وحسماً للفتنة ويسمّونها‏:‏ إمارة الاستيلاء تفريقاً بينها وبين إمارة الاستكفاء‏.‏

وهي وإن خرجت على عرف التّقليد ‏(‏التّولية‏)‏، وشروطه وأحكامه، فالحكمة في إقرارها هي حفظ وحدة كلمة المسلمين بالاعتراف بوجود الخلافة الواحدة في الجملة، وإضفاء صفة الشّرعيّة على الأحكام الّتي يصدرها المستولي، وصونها عن الفساد‏.‏

وجاء في الأحكام السّلطانيّة للماورديّ‏:‏ والّذي ينحفظ بتقليد المستولي من قوانين الشّرع سبعة أشياء، فيشترك في التزامها الخليفة، والمستولي‏.‏ وعدّد الأشياء، ولا تخرج في عمومها عمّا ذكرناه، من حفظ مركز الخلافة، والاعتراف بوجودها، وإضفاء الصّفة الشّرعيّة على أعمال الإمارة وصونها عن الفساد‏.‏

ولا يخفى أنّ صحّة هذا النّوع من الإمارة هو من باب الضّرورة، كما صرّح بذلك الحصكفيّ وغيره‏.‏

الإمارة الخاصّة ‏(‏من حيث الموضوع‏)‏

10 - الإمارة الخاصّة هي ما كان الأمير مقصور النّظر فيها على أمرٍ خاصٍّ، كقيادة الجيش، فيقتصر نظره فيما حدّد له، في عقد التّقليد، فلا يتعرّض لغيرها، كالقضاء، وجباية الخراج، وقبض الصّدقات، وإمارة الجهاد، وإمارة الحجّ، وإمارة السّفر‏.‏

إمارة الحجّ

11 - جمهور الفقهاء على أنّه يستحبّ للإمام - إن لم يخرج بنفسه - أن ينصب للحجيج أميراً يخرج بهم، ويرعى مصالحهم في حلّهم وترحالهم، ويخطب فيهم في الأماكن الّتي شرعت فيها الخطبة، يعلّمهم فيها مناسك الحجّ وأعماله وما يتعلّق به‏.‏ وذهب بعض الشّافعيّة إلى أنّ تنصيب أميرٍ لإقامة الحجّ واجب على الإمام، إن لم يخرج بنفسه، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «بعث في السّنة الثّامنة من الهجرة عتّاب بن أسيدٍ، وفي التّاسعة أبا بكرٍ‏.‏ وخرج بنفسه في العاشرة»‏.‏

أقسام إمارة الحجّ

كتب الأحكام السّلطانيّة وحدها دون كتب الفقه فيما نعلم قسّمت هذه الإمارة إلى قسمين‏:‏ إمارة إقامة الحجّ‏.‏ وإمارة تسيير الحجيج‏.‏

أ - إمارة تسيير الحجيج‏:‏

12 - إمارة تسيير الحجيج هي‏:‏ ولاية سياسيّة، وزعامة وتدبير‏.‏ فيشترط لأميرها‏:‏ أن يكون مطاعاً، ذا رأيٍ وشجاعةٍ، وهيبةٍ‏.‏ وقد عدّ الماورديّ عشرة أشياء جعلها من واجبات أمير الحجيج وهي‏:‏

أولاً‏:‏ جمع النّاس في مسيرهم ونزولهم حتّى لا يتفرّقوا‏.‏

ثانياً‏:‏ ترتيبهم في السّير والنّزول، وتقسيمهم إلى مجموعاتٍ لكلٍّ منها رئيس، حتّى يعرف كلّ فريقٍ منهم جماعته إذا سار، ويألف مكانه إذا نزل، فلا يتنازعون فيه، ولا يضلّون عنه‏.‏

ثالثاً‏:‏ يرفق بهم في السّير حتّى لا يعجز عنه ضعيفهم، ولا يضلّ عنه منقطعهم‏.‏

رابعاً‏:‏ أن يسلك بهم أوضح الطّرق وأخصبها، ويتجنّب أجدبها وأوعرها‏.‏

خامساً‏:‏ أن يرتاد لهم المياه إذا انقطعت، والمراعي إذا قلّت‏.‏

سادساً‏:‏ أن يحرسهم إذا نزلوا، ويحوطهم إذا رحلوا‏.‏

سابعاً‏:‏ أن يمنع عنهم من يصدّهم عن المسير‏.‏

ثامناً‏:‏ أن يصلح بين المتشاجرين، ويتوسّط بين المتنازعين‏.‏

تاسعاً‏:‏ أن يؤدّب خائنهم، ولا يتجاوز التّعزير‏.‏

عاشراً‏:‏ أن يراعي اتّساع الوقت حتّى يؤمن فوات الحجّ عليهم‏.‏

الحكم بين الحجيج

13 - ليس لأمير الحجّ أن يتعرّض للحكم بين الحجيج إجباراً إلاّ أن يفوّض إليه الحكم، وهو أهل للقضاء، فيجوز له حينئذٍ أن يحكم بينهم‏.‏ فإن دخلوا في بلدٍ فيه حاكم جاز له أن يحكم بينهم‏.‏ كما يجوز لحاكم البلد أن يحكم بينهم‏.‏ هذا إذا كان النّزاع بين الحجّاج‏.‏ أمّا إذا كان بين الحجيج وبين أهل البلد لم يحكم بينهم إلاّ حاكم البلد‏.‏

إقامة الحدود فيهم

14 - لا يجوز لأمير الحجّ إقامة الحدود في الحجيج إلاّ أن يؤذن له فيها وهو من أهل القضاء‏.‏ فإن أذن فله إقامتها فيهم‏.‏ فإن دخل في بلدٍ فيه من يتولّى إقامة الحدود، فإن كان المحدود قد أتى بموجب الحدّ قبل دخول البلد، فأمير الحجيج أولى بإقامة الحدّ عليه‏.‏

أمّا إذا أتى به بعد دخول البلد فحاكم البلد أولى بإقامة الحدّ من أمير الحجيج‏.‏

انتهاء ولايته

15 - إذا وصل الحجيج إلى مكّة زالت ولايته عمّن لا يرغب العودة‏.‏ أمّا من كان عازماً على العود فيبقى تحت ولايته حتّى يصلوا إلى بلادهم‏.‏

ب - إمارة إقامة الحجّ‏:‏

16 - هي أن ينصب الإمام أميراً للحجيج يخرج بهم نيابةً عنه في المشاعر‏.‏

ويشترط في أمير إقامة الحجّ شروط إمامة الصّلاة، مضافاً إليها أن يكون عالماً بمناسك الحجّ وأحكامه عارفاً بمواقيته وأيّامه‏.‏

انتهاء إمارته

17 - تنتهي ولاية أمير إقامة الحجّ بانتهاء أعمال الحجّ، ولا تتجاوزها، وتبدأ بابتدائها، فتبدأ من وقت صلاة الظّهر في اليوم السّابع من ذي الحجّة، وتنتهي في يوم النّفر الثّاني، وهو اليوم الثّالث عشر من ذي الحجّة‏.‏

وإذا كان تقليده مطلقاً على إقامة الحجّ فله إقامته في كلّ عامٍ حتّى يصرف عنه‏.‏

أمّا إذا كان تقليده لعامٍ واحدٍ فليس له إقامته في غيره من الأعوام، إلاّ بتقليدٍ جديدٍ‏.‏

اختصاصه

18 - يختصّ نظره في كلّ ما يتعلّق بأعمال الحجّ‏:‏ من الإشعار بوقت الإحرام، والخروج بالنّاس إلى مشاعرهم، وإلقاء الخطب في الأماكن الّتي شرعت فيها، وترتيبه المناسك على ما استقرّ الشّرع عليه لأنّه متبوع فيها، فلا يقدّم مؤخّراً ولا يؤخّر مقدّماً سواء كان التّرتيب واجباً أو مستحبّاً‏.‏

إقامة الحدود

19 - ليس لأمير إقامة الحجّ إقامة الحدّ، أو التّعزير على من أتى ما يوجب ذلك من أفراد الحجيج، إن كان الموجب ممّا لا يتعلّق بالحجّ‏.‏ أمّا إذا كان موجب الحدّ أو التّعزير ممّا يتعلّق بالحجّ فله التّعزير‏.‏ وفي إقامة الحدّ وجهان‏:‏ أحدهما ليس له ذلك‏.‏ لأنّه خارج من أحكام الحجّ، وولايته خاصّة بالحجّ‏.‏ والثّاني له إقامته عليه‏.‏

الحكم بين الحجيج

20 - لا يجوز لأمير إقامة الحجّ أن يحكم بين الحجيج فيما تنازعوا فيه من غير أحكام الحجّ‏.‏

إمارة السّفر

21 - يستحبّ لكلّ جماعةٍ ‏(‏ثلاثةٍ فأكثر‏)‏ قصدوا السّفر أن يؤمّروا أحدهم، ويجب عليهم طاعته فيما يتعلّق بما هم فيه، ويحرم عليهم مخالفته، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إذا خرج ثلاثة في السّفر فليؤمّروا أحدهم»‏.‏ وللتّفصيل ينظر مصطلح ‏(‏سفر‏)‏‏.‏

إمام

انظر‏:‏ إمامة‏.‏

إمامة الصّلاة

الإمامة الصّغرى

التّعريف

1 - الإمامة في اللّغة‏:‏ مصدر أمّ يؤمّ، وأصل معناها القصد، ويأتي بمعنى التّقدّم، يقال‏:‏ أمّهم وأمّ بهم‏:‏ إذا تقدّمهم‏.‏

وفي اصطلاح الفقهاء تطلق الإمامة على معنيين‏:‏ الإمامة الصّغرى، والإمامة الكبرى‏.‏ ويعرّفون الإمامة الكبرى بأنّها‏:‏ استحقاق تصرّفٍ عامٍّ على الأنام ‏(‏أي النّاس‏)‏، وهي رئاسة عامّة في الدّين والدّنيا خلافةً عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏(‏ر‏:‏ إمامة كبرى‏)‏‏.‏ أمّا الإمامة الصّغرى ‏(‏وهي إمامة الصّلاة‏)‏ فهي ارتباط صلاة المصلّي بمصلٍّ آخر بشروطٍ بيّنها الشّرع‏.‏ فالإمام لم يصر إماماً إلاّ إذا ربط المقتدي صلاته بصلاته، وهذا الارتباط هو حقيقة الإمامة، وهو غاية الاقتداء‏.‏

وعرّفها بعضهم بأنّها‏:‏ كون الإمام متّبعاً في صلاته كلّها أو جزءٍ منها‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - القدوة‏:‏

2 - القدوة اسم للاقتداء أي‏:‏ الاتّباع، ويطلق على الشّخص المتبوع، يقال‏:‏ فلان قدوة أي يقتدى به‏.‏

ب - الاقتداء والتّأسّي‏:‏

3 - الاقتداء والتّأسّي كلّ منهما بمعنى الاتّباع، سواء كان ذلك في صلاةٍ أو غيرها، فالمأموم يقتدي بالإمام ويتأسّى به، فيعمل مثل عمله، ويطلق على المقتدى به أنّه قدوة وأسوة‏.‏

مشروعيّة الإمامة وفضلها

4 - إمامة الصّلاة تعتبر من خير الأعمال الّتي يتولّاها خير النّاس ذوو الصّفات الفاضلة من العلم والقراءة والعدالة وغيرها كما سيأتي، ولا تتصوّر صلاة الجماعة إلاّ بها‏.‏

وصلاة الجماعة من شعائر الإسلام، ومن السّنن المؤكّدة الّتي تشبه الواجب في القوّة عند أكثر الفقهاء، وصرّح بعضهم بوجوبها، وتفصيله في مصطلح‏:‏ ‏(‏صلاة الجماعة‏)‏‏.‏

وقد صرّح جمهور الفقهاء، ومنهم الحنفيّة، وبعض المالكيّة، وهو رواية في مذهب أحمد‏:‏ بأنّ الإمامة أفضل من الأذان والإقامة، لمواظبة النّبيّ صلى الله عليه وسلم والخلفاء الرّاشدين عليها، ولهذا أمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يقوم بها أعلم النّاس وأقرؤهم، كما روي في حديث أبي سعيدٍ الخدريّ‏.‏ قال‏:‏ «قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ إذا كانوا ثلاثةً فليؤمّهم أحدهم، وأحقّهم أقرؤهم»‏.‏

ولمّا مرض النّبيّ عليه السلام اختار أفضل الصّحابة للإمامة حيث قال‏:‏ «مروا أبا بكرٍ فليصلّ بالنّاس»، ففهم الصّحابة من تقديمه في الإمامة الصّغرى استحقاقه الإمامة الكبرى‏.‏ وفي قولٍ آخر‏:‏ الأذان أفضل، وهو قول بعض المالكيّة، ومذهب الشّافعيّ، ورواية في مذهب أحمد، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «الإمام ضامن والمؤذّن مؤتمن، اللّهمّ أرشد الأئمّة واغفر للمؤذّنين» والأمانة أعلى من الضّمان، والمغفرة أعلى من الإرشاد‏.‏ وقال عمر رضي الله عنه‏:‏ ‏"‏ لولا الخلافة لأذّنت ‏"‏‏.‏

شروط الإمامة

يشترط لصحّة الإمامة الأمور التّالية‏:‏

أ - الإسلام‏:‏

5 - اتّفق الفقهاء على أنّه يشترط في الإمام أن يكون مسلماً‏.‏ وعلى هذا لا تصحّ الصّلاة خلف من هو كافر يعلن كفره، أمّا إذا صلّى خلف من لا يعلم كفره، ثمّ تبيّن أنّه كافر، فإنّ الحنفيّة والحنابلة قالوا‏:‏ إذا أمّهم زماناً على أنّه مسلم، ثمّ ظهر أنّه كان كافراً، فليس عليهم إعادة الصّلاة، لأنّها كانت محكوماً بصحّتها، وخبره غير مقبولٍ في الدّيانات لفسقه باعترافه‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ لو بان إمامه كافراً معلناً، وقيل‏:‏ أو مخفياً، وجبت الإعادة، لأنّ المأموم مقصّر بترك البحث‏.‏ وقال الشّربينيّ‏:‏ إنّ الأصحّ عدم وجوب الإعادة إذا كان الإمام مخفياً كفره‏.‏ ومثله مذهب المالكيّة حيث قالوا‏:‏ تبطل الصّلاة بالاقتداء بمن كان كافراً، سواء أكانت سرّيّةً أم جهريّةً، وسواء أطالت مدّة صلاته إماماً بالنّاس أم لا‏.‏ وصرّح الحنابلة، وهو رواية عند المالكيّة، بعدم جواز إمامة الفاسق، وهو الّذي أتى بكبيرةٍ كشارب خمرٍ وزانٍ وآكل الرّبا، أو داوم على صغيرةٍ‏.‏ لكنّ الحنفيّة والشّافعيّة ذهبوا إلى جواز إمامة الفاسق مع الكراهة، وهذا هو المعتمد عند المالكيّة إذا لم يتعلّق فسقه بالصّلاة، وإلاّ بطلت عندهم كقصده الكبر بالإمامة، وإخلاله بركنٍ أو شرطٍ أو سنّةٍ عمداً‏.‏ وفي صلاة الجمعة والعيدين جاز إمامة الفاسق بغير كراهةٍ، مع تفصيلٍ ينظر في مواضعه‏.‏

ب - العقل‏:‏

6 - يشترط في الإمام أن يكون عاقلاً، وهذا الشّرط أيضاً متّفق عليه بين الفقهاء، فلا تصحّ إمامة السّكران، ولا إمامة المجنون المطبق، ولا إمامة المجنون غير المطبق حال جنونه، وذلك لعدم صحّة صلاتهم لأنفسهم فلا تبنى عليها صلاة غيرهم‏.‏

أمّا الّذي يجنّ ويفيق، فتصحّ إمامته حال إفاقته‏.‏

ت - البلوغ‏:‏

7 - جمهور الفقهاء - الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة - على أنّه يشترط لصحّة الإمامة في صلاة الفرض أن يكون الإمام بالغاً، فلا تصحّ إمامة مميّزٍ لبالغٍ في فرضٍ عندهم، لما ورد عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال‏:‏ «لا تقدّموا صبيانكم»، ولأنّها حال كمالٍ والصّبيّ ليس من أهلها، ولأنّ الإمام ضامن وليس هو من أهل الضّمان، ولأنّه لا يؤمن معه الإخلال بالقراءة حال السّرّ‏.‏ واستدلّوا كذلك على عدم صحّة إمامة الصّبيّ للبالغ في الفرض أنّ صلاة الصّبيّ نافلة فلا يجوز بناء الفرض عليها‏.‏

أمّا في غير الفرض كصلاة الكسوف أو التّراويح فتصحّ إمامة المميّز للبالغ عند جمهور الفقهاء - المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة وبعض الحنفيّة - لأنّه لا يلزم منها بناء القويّ على الضّعيف‏.‏ والمختار عند الحنفيّة عدم جواز إمامة المميّز للبالغ مطلقاً، سواء أكانت في الفرائض أم في النّوافل، لأنّ نفل الصّبيّ ضعيف لعدم لزومه بالشّروع، ونفل المقتدي البالغ قويّ لازم مضمون عليه بعد الشّروع‏.‏ ولم يشترط الشّافعيّة في الإمام أن يكون بالغاً، فتصحّ إمامة المميّز للبالغ عندهم مطلقاً، سواء أكانت في الفرائض أم النّوافل،

لحديث «عمرو بن سلمة أنّه كان يؤمّ قومه على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وهو ابن ستّ أو سبع سنين» لكنّهم قالوا‏:‏ البالغ أولى من الصّبيّ، وإن كان الصّبيّ أقرأ أو أفقه، لصحّة الاقتداء بالبالغ بالإجماع، ولهذا نصّ في البويطيّ على كراهة الاقتداء بالصّبيّ‏.‏ أمّا إمامة المميّز لمثله فجائزة في الصّلوات الخمس وغيرها عند جميع الفقهاء‏.‏

ث - الذّكورة‏:‏

8 - يشترط لإمامة الرّجال أن يكون الإمام ذكراً، فلا تصحّ إمامة المرأة للرّجال، وهذا متّفق عليه بين الفقهاء، لما ورد في الحديث أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «أخّروهنّ من حيث أخّرهنّ اللّه» والأمر بتأخيرهنّ نهي عن الصّلاة خلفهنّ‏.‏ ولما روى جابر مرفوعاً‏:‏ «لا تؤمّنّ امرأة رجلاً» ولأنّ في إمامتها للرّجال افتتاناً بها‏.‏

أمّا إمامة المرأة للنّساء فجائزة عند جمهور الفقهاء - وهم الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة - واستدلّ الجمهور لجواز إمامة المرأة للنّساء بحديث «أمّ ورقة أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أذن لها أن تؤمّ نساء أهل دارها»‏.‏

لكن كره الحنفيّة إمامتها لهنّ، لأنّها لا تخلو عن نقصٍ واجبٍ أو مندوبٍ، فإنّه يكره لهنّ الأذان والإقامة، ويكره تقدّم المرأة الإمام عليهنّ‏.‏ فإذا صلّت النّساء صلاة الجماعة بإمامة امرأةٍ وقفت المرأة الإمام وسطهنّ‏.‏ أمّا المالكيّة فلا تجوز إمامة المرأة عندهم مطلقاً ولو لمثلها في فرضٍ أو نفلٍ‏.‏ ولا تصحّ إمامة الخنثى للرّجال ولا لمثلها بلا خلافٍ، لاحتمال أن تكون امرأةً والمقتدي رجلاً، وتصحّ إمامتها للنّساء مع الكراهة أو بدونها عند جمهور الفقهاء، خلافاً للمالكيّة حيث صرّحوا بعدم جوازها مطلقاً‏.‏

ج - القدرة على القراءة‏:‏

9- يشترط في الإمام أن يكون قادراً على القراءة وحافظاً مقدار ما يتوقّف عليه صحّة الصّلاة على تفصيلٍ يذكر في مصطلح ‏(‏قراءة‏)‏‏.‏

وهذا الشّرط إنّما يعتبر إذا كان بين المقتدين من يقدر على القراءة، فلا تصحّ إمامة الأمّيّ للقارئ، ولا إمامة الأخرس للقارئ أو الأمّيّ، لأنّ القراءة ركن مقصود في الصّلاة، فلم يصحّ اقتداء القادر عليه بالعاجز عنه، ولأنّ الإمام ضامن ويتحمّل القراءة عن المأموم، ولا يمكن ذلك في الأمّيّ، ولتفصيل المسألة ‏(‏ر‏:‏ اقتداء‏)‏‏.‏

أمّا إمامة الأمّيّ للأمّيّ والأخرس فجائزة، وهذا متّفق عليه بين الفقهاء‏.‏

هذا، وتكره إمامة الفأفاء ‏(‏وهو من يكرّر الفاء‏)‏ والتّمتام ‏(‏وهو من يكرّر التّاء‏)‏ واللّاحن لحناً غير مغيّرٍ للمعنى عند الشّافعيّة والحنابلة‏.‏ وقال الحنفيّة‏:‏ الفأفأة، والتّمتمة، واللّثغة ‏(‏وهي تحرّك اللّسان من السّين إلى الثّاء، أو من الرّاء إلى الغين ونحوه‏)‏ تمنع من الإمامة‏.‏ وعند المالكيّة في جواز إمامة هؤلاء وأمثالهم خلاف‏.‏

ح - السّلامة من الأعذار‏:‏

10 - يشترط في الإمام إذا كان يؤمّ الأصحّاء أن يكون سالماً من الأعذار، كسلس البول وانفلات الرّيح والجرح السّائل والرّعاف، وهذا عند الحنفيّة والحنابلة، وهو رواية عند الشّافعيّة، لأنّ أصحاب الأعذار يصلّون مع الحدث حقيقةً، وإنّما تجوز صلاتهم لعذرٍ، ولا يتعدّى العذر لغيرهم لعدم الضّرورة، ولأنّ الإمام ضامن، بمعنى أنّ صلاته تضمن صلاة المقتدي، والشّيء لا يضمن ما هو فوقه‏.‏

ولا يشترط في المشهور عند المالكيّة - وهو الأصحّ عند الشّافعيّة - السّلامة من العذر لصحّة الإمامة، لأنّ الأحداث إذا عفي عنها في حقّ صاحبها عفي عنها في حقّ غيره‏.‏

وأمّا إمامة صاحب العذر لمثله فجائزة باتّفاق الفقهاء مطلقاً، أو إن اتّحد عذرهما ‏(‏ر‏:‏ اقتداء‏)‏‏.‏

خ - القدرة على توفية أركان الصّلاة‏:‏

11 - يشترط في الإمام أن يكون قادراً على توفية الأركان، وهذا إذا كان يصلّي بالأصحّاء، فمن يصلّي بالإيماء ركوعاً أو سجوداً لا يصحّ أن يصلّي بمن يقدر عليهما عند جمهور الفقهاء ‏(‏الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة‏)‏ خلافاً للشّافعيّة فإنّهم أجازوا ذلك قياساً على صحّة إمامة المستلقي أو المضطجع للقاعد‏.‏

واختلفوا في صحّة إمامة القاعد للقائم، فالمالكيّة والحنابلة لا يجوّزونها، لأنّ فيه بناء القويّ على الضّعيف، واستثنى الحنابلة إمام الحيّ إذا كان مرضه ممّا يرجى زواله، فأجازوا إمامته، واستحبّوا له إذا عجز عن القيام أن يستخلف، فإن صلّى بهم قاعداً صحّ‏.‏ والشّافعيّة يقولون بالجواز، وهو قول أكثر الحنفيّة، لحديث عائشة أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم «صلّى آخر صلاةٍ صلّاها بالنّاس قاعداً، والقوم خلفه قيام»‏.‏

أمّا إمامة العاجز عن توفية الأركان لمثله فجائزة باتّفاق الفقهاء، وللتّفصيل ‏(‏ر‏:‏ اقتداء‏)‏‏.‏

د - السّلامة من فقد شرطٍ من شروط الصّلاة‏:‏

12 - يشترط في الإمام السّلامة من فقد شرطٍ من شروط صحّة الصّلاة كالطّهارة من حدثٍ أو خبثٍ، فلا تصحّ إمامة محدثٍ ولا متنجّسٍ إذا كان يعلم ذلك، لأنّه أخلّ بشرطٍ من شروط الصّلاة مع القدرة على الإتيان به، ولا فرق بين الحدث الأكبر والأصغر، ولا بين نجاسة الثّوب والبدن والمكان‏.‏

وصرّح المالكيّة والشّافعيّة أنّ علم المقتدي بحدث الإمام بعد الصّلاة مغتفر، وقال الحنفيّة‏:‏ من اقتدى بإمامٍ ثمّ علم أنّ إمامه محدث أعاد لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من أمّ قوماً ثمّ ظهر أنّه كان محدثاً أو جنباً أعاد صلاته»‏.‏

وفصّل الحنابلة فقالوا‏:‏ لو جهله المأموم وحده وعلمه الإمام يعيدون كلّهم، أمّا إذا جهله الإمام والمأمومون كلّهم حتّى قضوا الصّلاة صحّت صلاة المأموم وحده، لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إذا صلّى الجنب بالقوم أعاد صلاته وتمّت للقوم صلاتهم»‏.‏ وتفصيله في مصطلح‏:‏ ‏(‏طهارة‏)‏‏.‏

ذ - النّيّة‏:‏

13 - يشترط في الإمام عند الحنابلة نيّة الإمامة، فإنّهم قالوا‏:‏ من شرط صحّة الجماعة‏:‏ أن ينوي الإمام أنّه إمام وينوي المأموم أنّه مأموم‏.‏ ولو أحرم منفرداً ثمّ جاء آخر فصلّى معه، فنوى إمامته صحّ في النّفل، لحديث ابن عبّاسٍ أنّه قال‏:‏ «بتّ عند خالتي ميمونة، فقام النّبيّ صلى الله عليه وسلم متطوّعاً من اللّيل، فقام إلى القربة فتوضّأ، فقام فصلّى، فقمت لمّا رأيته صنع ذلك، فتوضّأت من القربة، ثمّ قمت إلى شقّه الأيسر، فأخذ بيدي من وراء ظهره يعدلني كذلك إلى الشّقّ الأيمن»‏.‏

أمّا في الفرض فإن كان ينتظر أحداً، كإمام المسجد يحرم وحده، وينتظر من يأتي فيصلّي معه، فيجوز ذلك أيضاً‏.‏

واختار ابن قدامة أنّ الفرض كالنّفل في صحّة صلاة من أحرم منفرداً ثمّ نوى أن يكون إماماً‏.‏ وقال الحنفيّة‏:‏ نيّة الرّجل الإمامة شرط لصحّة اقتداء النّساء إن كنّ وحدهنّ، وهذا في صلاةٍ ذات ركوعٍ وسجودٍ، لا في صلاة الجنازة، لما يلزم من الفساد بمحاذاة المرأة له لو حاذته، وإن لم ينو إمامة المرأة ونوت هي الاقتداء به لم تضرّه، فتصحّ صلاته ولا تصحّ صلاتها، لأنّ الاشتراك لا يثبت دون النّيّة‏.‏

ولا يشترط نيّة الإمام الإمامة عند المالكيّة والشّافعيّة، إلاّ في الجمعة والصّلاة المعادة والمنذورة عند الشّافعيّة، لكنّه يستحبّ عندهم للإمام أن ينوي الإمامة في سائر الصّلوات للخروج من خلاف الموجب لها، وليحوز فضيلة الإمامة وصلاة الجماعة‏.‏

الأحقّ بالإمامة

14 - وردت في ذلك الأحاديث التّالية‏:‏ عن أبي سعيدٍ قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إذا كانوا ثلاثةً فليؤمّهم أحدهم، وأحقّهم بالإمامة أقرؤهم» رواه أحمد ومسلم والنّسائيّ‏.‏ وعن أبي مسعودٍ عقبة بن عمرٍو قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏

«يؤمّ القوم أقرؤهم لكتاب اللّه، فإن كانوا في القراءة سواءً فأعلمهم بالسّنّة، فإن كانوا في السّنّة سواءً فأقدمهم هجرةً، فإن كانوا في الهجرة سواءً فأقدمهم سنّاً، ولا يؤمّنّ الرّجل الرّجل في سلطانه، ولا يقعد في بيته على تكرمته إلاّ بإذنه»‏.‏

15 - اتّفق الفقهاء على أنّه إذا اجتمع قوم وكان فيهم ذو سلطانٍ، كأميرٍ ووالٍ وقاضٍ فهو أولى بالإمامة من الجميع حتّى من صاحب المنزل وإمام الحيّ، وهذا إذا كان مستجمعاً لشروط صحّة الصّلاة كحفظ مقدار الفرض من القراءة والعلم بأركان الصّلاة، حتّى ولو كان بين القوم من هو أفقه أو أقرأ منه، لأنّ ولايته عامّة، ولأنّ ابن عمر كان يصلّي خلف الحجّاج‏.‏ وإن لم يكن بينهم ذو سلطانٍ يقدّم صاحب المنزل، ويقدّم إمام الحيّ وإن كان غيره أفقه أو أقرأ أو أورع منه، إن شاء تقدّم وإن شاء قدّم من يريده‏.‏ لكنّه يستحبّ لصاحب المنزل أن يأذن لمن هو أفضل منه‏.‏

واتّفقوا كذلك على أنّ بناء أمر الإمامة على الفضيلة والكمال، ومن استجمع خصال العلم وقراءة القرآن والورع وكبر السّنّ وغيرها من الفضائل كان أولى بالإمامة‏.‏

ولا خلاف في تقديم الأعلم والأقرأ على سائر النّاس، ولو كان في القوم من هو أفضل منه في الورع والسّنّ وسائر الأوصاف‏.‏

وجمهور الفقهاء‏:‏ ‏(‏الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة‏)‏ على أنّ الأعلم بأحكام الفقه أولى بالإمامة من الأقرأ، لحديث‏:‏ «مروا أبا بكرٍ فليصلّ بالنّاس» وكان ثمّة من هو أقرأ منه، لا أعلم منه، لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أقرؤكم أبيٍّ»، ولقول أبي سعيدٍ‏:‏‏"‏ كان أبو بكرٍ أعلمنا ‏"‏، وهذا آخر الأمرين من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فيكون المعوّل عليه‏.‏ ولأنّ الحاجة إلى الفقه أهمّ منها إلى القراءة، لأنّ القراءة إنّما يحتاج إليها لإقامة ركنٍ واحدٍ، والفقه يحتاج إليه لجميع الأركان والواجبات والسّنن‏.‏

وقال الحنابلة، وهو قول أبي يوسف من الحنفيّة‏:‏ إنّ أقرأ النّاس أولى بالإمامة ممّن هو أعلمهم، لحديث أبي سعيدٍ قال‏:‏ قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إذا كانوا ثلاثة فليؤمّهم أحدهم، وأحقّهم بالإمامة أقرؤهم» ولأنّ القراءة ركن لا بدّ منه، والحاجة إلى العلم إذا عرض عارض مفسد ليمكنه إصلاح صلاته، وقد يعرض وقد لا يعرض‏.‏

16 - أمّا إذا تفرّقت خصال الفضيلة من العلم والقراءة والورع وكبر السّنّ وغيرها في أشخاصٍ فقد اختلفت أقوال الفقهاء‏.‏ فمنهم من قدّم الأعلم على الأقرأ، وقالوا‏:‏ إنّما أمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم بتقديم القارئ، لأنّ أصحابه كان أقرؤهم أعلمهم، فإنّهم كانوا إذا تعلّموا القرآن تعلّموا معه أحكامه، وهذا قول جمهور الفقهاء‏.‏ والأصل في أولويّة الإمامة حديث أبي مسعودٍ الأنصاريّ أنّ النّبيّ عليه السلام قال‏:‏ «يؤمّ القوم أقرؤهم لكتاب اللّه، فإن كانوا في القراءة سواءً فأعلمهم بالسّنّة، فإن كانوا في السّنّة سواءً فأقدمهم هجرةً، فإن كانوا في الهجرة سواءً فأقدمهم سنّاً»‏.‏

17 - وفي ترتيب الأولويّة في الإمامة بعد الاستواء في العلم والقراءة، قال الحنفيّة والشّافعيّة‏:‏ يقدّم أورعهم أي الأكثر اتّقاءً للشّبهات، لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «من صلّى خلف عالمٍ تقيٍّ فكأنّما صلّى خلف نبيٍّ» ولأنّ الهجرة المذكورة بعد القراءة والعلم بالسّنّة نسخ وجوبها بحديث‏:‏ «لا هجرة بعد الفتح» فجعلوا الورع - وهو هجر المعاصي - مكان تلك الهجرة‏.‏

ومثله ما صرّح به المالكيّة حيث قالوا‏:‏ الأولويّة بعد الأعلم والأقرأ للأكثر عبادةً‏.‏ ثمّ إن استووا في الورع يقدّم عند الجمهور الأقدم إسلاماً، فيقدّم شابّ نشأ في الإسلام على شيخٍ أسلم حديثاً‏.‏ أمّا لو كانوا مسلمين من الأصل، أو أسلموا معاً فإنّه يقدّم الأكبر سنّاً، لقوله عليه السلام‏:‏ «وليؤمّكما أكبركما سنّاً»‏.‏ ولأنّ الأكبر في السّنّ يكون أخشع قلباً عادةً، وفي تقديمه كثرة الجماعة‏.‏

18 - فإن استووا في الصّفات والخصال المتقدّمة من العلم والقراءة والورع والسّنّ، قال الحنفيّة يقدّم الأحسن خلقاً، لأنّ حسن الخلق من باب الفضيلة، ومبنى الإمامة على الفضيلة، فإن كانوا فيه سواءً فأحسنهم وجهاً، لأنّ رغبة النّاس في الصّلاة خلفه أكثر، ثمّ الأشرف نسباً، ثمّ الأنظف ثوباً‏.‏ فإن استووا يقرع بينهم‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ يقدّم بعد الأسنّ الأشرف نسباً، ثمّ الأحسن صورةً، ثمّ الأحسن أخلاقاً، ثمّ الأحسن ثوباً‏.‏

والشّافعيّة كالمالكيّة في تقديم الأشرف نسباً، ثمّ الأنظف ثوباً وبدناً، وحسن صوتٍ، وطيّب صفةٍ وغيرها، ثمّ يقرع بينهم‏.‏ أمّا الحنابلة فقد صرّحوا أنّه إن استووا في القراءة والفقه فأقدمهم هجرةً، ثمّ أسنّهم، ثمّ أشرفهم نسباً، ثمّ أتقاهم وأورعهم، فإن استووا في هذا كلّه أقرع بينهم‏.‏ ولا يقدّم بحسن الوجه عندهم، لأنّه لا مدخل له في الإمامة، ولا أثر له فيها‏.‏ وهذا التّقديم إنّما هو على سبيل الاستحباب وليس على سبيل الاشتراط ولا الإيجاب، فلو قدّم المفضول كان جائزاً اتّفاقاً ما دام مستجمعاً شرائط الصّحّة، لكن مع الكراهة عند الحنابلة‏.‏ والمقصود بذكر هذه الأوصاف وربط الأولويّة بها هو كثرة الجماعة، فكلّ من كان أكمل فهو أفضل، لأنّ رغبة النّاس فيه أكثر‏.‏

اختلاف صفة الإمام والمقتدي

19 - الأصل أنّ الإمام إذا كان أقوى حالاً من المقتدي أو مساوياً له صحّت إمامته اتّفاقاً، أمّا إذا كان أضعف حالاً، كأن كان يصلّي نافلةً والمقتدي يصلّي فريضةً، أو كان الإمام معذوراً والمقتدي سليماً، أو كان الإمام غير قادرٍ على القيام مثلاً والمقتدي قادراً، فقد اختلفت آراء الفقهاء، وإجمالها فيما يأتي‏:‏

أوّلاً‏:‏ تجوز إمامة الماسح للغاسل وإمامة المسافر للمقيم اتّفاقاً، وتجوز إمامة المتيمّم للمتوضّئ عند جمهور الفقهاء - الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة -، وقيّد الشّافعيّة هذا الجواز بما إذا لم تجب على الإمام الإعادة‏.‏

ثانياً‏:‏ جمهور الفقهاء على عدم جواز إمامة المتنفّل للمفترض، والمفترض للّذي يؤدّي فرضاً آخر، وعدم إمامة الصّبيّ للبالغ في فرضٍ، وإمامة المعذور للسّليم، وإمامة العاري للمكتسي، وإمامة العاجز عن توفية ركنٍ للقادر عليه، مع خلافٍ وتفصيلٍ في بعض الفروع، أمّا إمامة هؤلاء لأمثالهم فجائزة باتّفاق الفقهاء‏.‏ وللتّفصيل يرجع إلى بحث‏:‏ ‏(‏اقتداء‏)‏‏.‏

موقف الإمام

20 - إذا كان يصلّي مع الإمام اثنان أو أكثر فإنّ الإمام يتقدّمهم في الموقف، لفعل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وعمل الأمّة بذلك‏.‏ وقد روي أنّ «جابراً وجبّاراً وقف أحدهما عن يمين النّبيّ صلى الله عليه وسلم والآخر عن يساره، فأخذ بأيديهما حتّى أقامهما خلفه»‏.‏ ولأنّ الإمام ينبغي أن يكون بحالٍ يمتاز بها عن غيره، ولا يشتبه على الدّاخل ليمكنه الاقتداء به‏.‏ ولو قام في وسط الصّفّ أو في ميسرته جاز مع الكراهة لتركه السّنّة‏.‏ ويرى الحنابلة بطلان صلاة من يقف على يسار الإمام، إذا لم يكن أحد عن يمينه‏.‏

ولو كان مع الإمام رجل واحد أو صبيّ يعقل الصّلاة وقف الإمام عن يساره والمأموم عن يمينه، لما روي عن ابن عبّاسٍ «أنّه وقف عن يسار النّبيّ صلى الله عليه وسلم فأداره إلى يمينه»‏.‏ ويندب في هذه الحالة تأخّر المأموم قليلاً خوفاً من التّقدّم‏.‏ ولو وقف المأموم عن يساره أو خلفه جاز مع الكراهة إلاّ عند الحنابلة فتبطل على ما سبق‏.‏

ولو كان معه امرأة أقامها خلفه، لقوله عليه السلام‏:‏ «أخّروهنّ من حيث أخّرهنّ اللّه»‏.‏ ولو كان معه رجل وامرأة أقام الرّجل عن يمينه والمرأة خلفه، وإن كان رجلان وامرأة أقام الرّجلين خلفه والمرأة وراءهما‏.‏

21- والسّنّة أن تقف المرأة الّتي تؤمّ النّساء وسطهنّ، لما روي أنّ عائشة وأمّ سلمة أمّتا نساءً فقامتا وسطهنّ وهذا عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة‏.‏

أمّا المالكيّة فقد صرّحوا بعدم جواز إمامتها ولو لمثلها، في فريضةٍ كانت أو في نافلةٍ كما تقدّم في شروط الإمامة‏.‏

22 - ولا يجوز تأخّر الإمام عن المأموم في الموقف عند جمهور الفقهاء - الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة - لحديث‏:‏ «إنّما جعل الإمام ليؤتمّ به» ومعنى الائتمام الاتّباع، والمتقدّم غير تابعٍ‏.‏ وأجاز المالكيّة تأخّره في الموقف إذا أمكن للمأمومين متابعته في الأركان، لكنّهم صرّحوا بكراهة تقدّم المقتدي على الإمام أو محاذاته له إلاّ لضرورةٍ‏.‏ والاختيار في التّقدّم والتّأخّر للقائم بالعقب، وللقاعد بالألية، وللمضطجع بالجنب‏.‏

23 - هذا، ويكره أن يكون موقف الإمام عالياً عن موقف المقتدين اتّفاقاً، إلاّ إذا أراد الإمام تعليم المأمومين، فالسّنّة أن يقف الإمام في موضعٍ عالٍ عند الشّافعيّة، لما روي «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم فعل ذلك ثمّ قال‏:‏ ‏{‏أيّها النّاس‏:‏ إنّما فعلت هذا لتأتمّوا بي، ولتعلموا صلاتي»‏.‏ أمّا إذا أراد الإمام بذلك الكبر فممنوع‏.‏ ولا بأس عند الحنابلة بالعلوّ اليسير، وقدّروه بمثل درجة المنبر‏.‏ وقدّر الحنفيّة العلوّ المكروه بما كان قدر ذراعٍ على المعتمد‏.‏ ولتفصيل هذه المسائل يراجع مصطلح‏:‏ ‏(‏صلاة الجماعة‏)‏ ‏(‏واقتداء‏)‏‏.‏

من تكره إمامتهم

24 - إنّ بناء أمر الإمامة على الفضيلة والكمال، فكلّ من كان أكمل فهو أفضل، وإن تقدّم المفضول على الفاضل جاز وكره وإذا أذن الفاضل للمفضول لم يكره، وهذا القدر متّفق عليه بين الفقهاء‏.‏ وقد سبق بيانه في بحث الأولويّة‏.‏

ثمّ قال الحنفيّة‏:‏ يكره تقديم العبد لأنّه لا يتفرّغ للتّعلّم، والأعرابيّ وهو من يسكن البادية لغلبة الجهل عليه، ويكره تقديم الفاسق لأنّه لا يهتمّ بأمر دينه، والأعمى لأنّه لا يتوقّى النّجاسة، كما يكره إمامة ولد الزّنى، والمبتدع بدعةً غير مكفّرةٍ، كذلك يكره إمامة أمرد وسفيهٍ ومفلوجٍ وأبرص شاع برصه‏.‏ ولأنّ في تقديم هؤلاء تنفير الجماعة، لكنّه إن تقدّموا جاز، لقوله عليه السلام‏:‏ «صلّوا خلف كلّ برٍّ وفاجرٍ»‏.‏

والكراهة في حقّهم لما ذكر من النّقائص، فلو عدمت بأن كان الأعرابيّ أفضل من الحضريّ، والعبد من الحرّ، وولد الزّنى من ولد الرّشدة والأعمى من البصير زالت الكراهة‏.‏ أمّا الفاسق والمبتدع فلا تخلو إمامتهما عن الكراهة بحالٍ، حتّى صرّح بعضهم بأنّ كراهة تقديمهما كراهة تحريمٍ‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ كره إمامة مقطوع اليد أو الرّجل والأشلّ والأعرابيّ لغيره وإن كان أقرأ، وكره إمامة ذي السّلس والقروح للصّحيح، وإمامة من يكرهه بعض الجماعة، فإن كرهه الكلّ أو الأكثر، أو ذو الفضل منهم - وإن قلّوا - فإمامته حرام، لقوله عليه السلام‏:‏ «لعن رسول اللّه ثلاثةً‏:‏ رجل أمّ قوماً وهم له كارهون‏.‏‏.‏‏.‏» كما كره أن يجعل إماماً راتباً كلّ من الخصيّ أو المأبون أو الأقلف ‏(‏غير المختون‏)‏ أو ولد الزّنى، أو مجهول الحال‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ يكره إمامة الفاسق والأقلف وإن كان بالغاً، كما يكره إمامة المبتدع، ومن يكرهه أكثر القوم لأمرٍ مذمومٍ فيه شرعاً، والتّمتام والفأفاء، واللّاحن لحناً غير مغيّرٍ للمعنى، لكن الأعمى والبصير سيّان في الإمامة، لتعارض فضيلتهما، لأنّ الأعمى لا ينظر ما يشغله فهو أخشع، والبصير ينظر الخبث فهو أحفظ لتجنّبه‏.‏ وإمامة الحرّ أولى من العبد، والسّميع أولى من الأصمّ، والفحل أولى من الخصيّ والمجبوب، والقرويّ أولى من البدويّ‏.‏ وقال الحنابلة‏:‏ تكره إمامة الأعمى والأصمّ واللّحّان الّذي لا يحيل المعنى، ومن يصرع، ومن اختلف في صحّة إمامته، وكذا إمامة الأقلف وأقطع اليدين أو إحداهما، أو الرّجلين أو إحداهما، والفأفاء والتّمتام، وأن يؤمّ قوماً أكثرهم يكرهه لخللٍ في دينه أو فضله‏.‏ ولا بأس بإمامة ولد الزّنى واللّقيط والمنفيّ باللّعان والخصيّ والأعرابيّ إذا سلم دينهم وصلحوا لها‏.‏ هذا، والكراهة إنّما تكون فيما إذا وجد في القوم غير هؤلاء، وإلاّ فلا كراهة اتّفاقاً‏.‏

ما يفعله الإمام قبل بداية الصّلاة

25 - إذا أراد الإمام الصّلاة يأذن للمؤذّن أن يقيمها، فإنّ «بلالاً كان يستأذن النّبيّ صلى الله عليه وسلم للإقامة»، ويسنّ للإمام أن يقوم للصّلاة حين يقال ‏(‏حيّ على الفلاح‏)‏ أو حين قول المؤذّن‏:‏ ‏(‏قد قامت الصّلاة‏)‏ أو مع الإقامة أو بعدها بقدر الطّاقة على تفصيلٍ عند الفقهاء، وإذا كان مسافراً يخبر المأمومين بذلك ليكونوا على علمٍ بحاله، ويصحّ أن يخبرهم بعدم تمام الصّلاة ليكملوا صلاتهم‏.‏ كما يسنّ أن يأمر بتسوية الصّفوف فيلتفت عن يمينه وشماله قائلاً‏:‏ اعتدلوا وسوّوا صفوفكم، لما روى محمّد بن مسلمٍ قال‏:‏ «صلّيت إلى جانب أنس بن مالكٍ يوماً فقال‏:‏ هل تدري لم صنع هذا العود ‏؟‏ فقلت‏:‏ لا واللّه‏.‏ فقال‏:‏ إنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا قام إلى الصّلاة أخذه بيمينه فقال‏:‏ اعتدلوا وسوّوا صفوفكم، ثمّ أخذه بيساره وقال‏:‏ اعتدلوا وسوّوا صفوفكم»، وفي روايةٍ‏:‏ «اعتدلوا في صفوفكم وتراصّوا، فإنّي أراكم من وراء ظهري»‏.‏

ما يفعله الإمام أثناء الصّلاة

أ - الجهر أو الإسرار بالقراءة‏:‏

26 - يجهر الإمام بالقراءة في الفجر والرّكعتين الأوليين من المغرب والعشاء أداءً وقضاءً، وكذلك في الجمعة والعيدين والتّراويح والوتر بعدها‏.‏ ويسرّ في غيرها من الصّلوات‏.‏ والجهر فيما يجهر فيه والمخافتة فيما يخافت فيه واجب على الإمام عند الحنفيّة، وسنّة عند غيرهم‏.‏ وتفصيله في مصطلح‏:‏ ‏(‏قراءة‏)‏‏.‏

ب - تخفيف الصّلاة‏:‏

27 - يسنّ للإمام أن يخفّف في القراءة والأذكار مع فعل الأبعاض والهيئات، ويأتي بأدنى الكمال، لما روي عن أبي هريرة أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إذا صلّى أحدكم بالنّاس فليخفّف، فإنّ فيهم السّقيم والضّعيف والكبير»، ولحديث معاذٍ أنّه كان يطوّل بهم القراءة، فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «أفتّان أنت يا معاذ، صلّ بالقوم صلاة أضعفهم»، لكنّه إن صلّى بقومٍ يعلم أنّهم يؤثرون التّطويل لم يكره، لأنّ المنع لأجلهم، وقد رضوا‏.‏ ويكره له الإسراع، بحيث يمنع المأموم من فعل ما يسنّ له، كتثليث التّسبيح في الرّكوع والسّجود، وإتمام ما يسنّ في التّشهّد الأخير‏.‏

ج - الانتظار للمسبوق‏:‏

28 - إن أحسّ الإمام بشخصٍ داخلٍ وهو راكع، ينتظره يسيراً ما لم يشقّ على من خلفه، وهذا عند الحنابلة، وهو الأصحّ عند الشّافعيّة، لأنّه انتظار ينفع ولا يشقّ، فشرع كتطويل الرّكعة وتخفيف الصّلاة، وقد ثبت «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يطيل الرّكعة الأولى حتّى لا يسمع وقع قدمٍ»‏.‏ وكان ينتظر الجماعة فإن رآهم قد اجتمعوا عجّل، وإذا رآهم قد أبطئوا أخّر‏.‏ ويكره ذلك عند الحنفيّة والمالكيّة، وهو مقابل الأصحّ عند الشّافعيّة‏.‏

د - الاستخلاف‏:‏

29 - إذا حدث للإمام عذر لا تبطل به صلاة المأمومين يجوز للإمام أن يستخلف غيره من المأمومين لتكميل الصّلاة بهم، وهذا عند جمهور الفقهاء‏.‏

وفي كيفيّة الاستخلاف وشروطه وأسبابه تفصيل وخلاف ينظر في مصطلح‏:‏ ‏(‏استخلاف‏)‏‏.‏

ما يفعله الإمام عقب الفراغ من الصّلاة

30 - يستحبّ للإمام والمأمومين عقب الصّلاة ذكر اللّه والدّعاء بالأدعية المأثورة، منها ما رواه الشّيخان «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يقول في دبر كلّ صلاةٍ مكتوبةٍ‏:‏ لا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كلّ شيءٍ قدير‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ»، كما يستحبّ له إذا فرغ من الصّلاة أن يقبل على النّاس بوجهه يميناً أو شمالاً إذا لم يكن بحذائه أحد، لما روي عن سمرة قال‏:‏ «كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذا صلّى صلاةً أقبل علينا بوجهه»‏.‏

ويكره له المكث على هيئته مستقبل القبلة، لما روي عن عائشة «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا فرغ من الصّلاة لا يمكث في مكانه إلاّ مقدار أن يقول‏:‏ اللّهمّ أنت السّلام ومنك السّلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام»، ولأنّ المكث يوهم الدّاخل أنّه في الصّلاة فيقتدي به‏.‏ كما يكره له أن يتنفّل في المكان الّذي أمّ فيه‏.‏

وإذا أراد الانصراف فإن كان خلفه نساء استحبّ له أن يلبث يسيراً، حتّى ينصرف النّساء ولا يختلطن بالرّجال، لما روت أمّ سلمة «أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان إذا سلّم قام النّساء حين يقضي سلامه، فيمكث يسيراً قبل أن يقوم»‏.‏ ثمّ ينصرف الإمام حيث شاء عن يمينٍ وشمالٍ‏.‏

31 - ويستحبّ كذلك للإمام المسافر إذا صلّى بمقيمين أن يقول لهم عقب تسليمه‏:‏ أتمّوا صلاتكم فإنّا سفر، لما روي عن عمران بن حصينٍ «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم صلّى بأهل مكّة ركعتين، ثمّ قال لهم‏:‏ صلّوا أربعاً فإنّا سفر»‏.‏

هذا، وقد فرّق الحنفيّة بين الصّلوات الّتي بعدها سنّة وبين الّتي ليست بعدها سنّة، فقالوا‏:‏ إن كانت صلاةً لا تصلّى بعدها سنّة، كالفجر والعصر فإن شاء الإمام قام، وإن شاء قعد يشتغل بالدّعاء، مغيّراً هيئته أو منحرفاً عن مكانه‏.‏ وإن كانت صلاةً بعدها سنّة يكره له المكث قاعداً، ولكن يقوم ويتنحّى عن ذلك المكان ثمّ يتنفّل‏.‏

ووجه التّفرقة عندهم أنّ السّنن بعد الفرائض شرعت لجبر النّقصان، ليقوم في الآخرة مقام ما ترك فيها لعذرٍ، فيكره الفصل بينهما بمكثٍ طويلٍ، ولا كذلك الصّلوات الّتي ليست بعدها سنّة‏.‏ ولم يعثر على هذه التّفرقة في كتب غير الحنفيّة‏.‏

الأجر على الإمامة

32 - ذهب جمهور الفقهاء‏:‏ - الشّافعيّة والحنابلة، والمتقدّمون من الحنفيّة - إلى عدم جواز الاستئجار لإمامة الصّلاة، لأنّها من الأعمال الّتي يختصّ فاعلها بكونه من أهل القربة، فلا يجوز الاستئجار عليها كنظائرها من الأذان وتعليم القرآن، لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «اقرءوا القرآن ولا تأكلوا به»‏.‏ ولأنّ الإمام يصلّي لنفسه، فمن أراد اقتدى به وإن لم ينو الإمامة، وإن توقّف على نيّته شيء فهو إحراز فضيلة الجماعة، وهذه فائدة تختصّ به‏.‏ ولأنّ العبد فيما يعمله من القربات والطّاعات عامل لنفسه، قال سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏من عمل صالحاً فلنفسه‏}‏، ومن عمل لنفسه لا يستحقّ الأجر على غيره‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ جاز أخذ الأجرة على الأذان وحده أو مع صلاةٍ، وكره الأجر على الصّلاة وحدها، فرضاً كانت أو نفلاً من المصلّين‏.‏

والمفتى به عند متأخّري الحنفيّة جواز الاستئجار لتعليم القرآن والفقه والإمامة والأذان، ويجبر المستأجر على دفع المسمّى بالعقد أو أجر المثل إذا لم تذكر مدّة‏.‏

واستدلّوا للجواز بالضّرورة، وهي خشية ضياع القرآن لظهور التّواني في الأمور الدّينيّة اليوم‏.‏ وهذا كلّه في الأجر‏.‏ وأمّا الرّزق من بيت المال فيجوز على ما يتعدّى نفعه من هذه الأمور بلا خلافٍ، لأنّه من باب الإحسان والمسامحة، بخلاف الإجارة فإنّها من باب المعاوضة، ولأنّ بيت المال لمصالح المسلمين، فإذا كان بذله لمن يتعدّى نفعه إلى المسلمين محتاجاً إليه كان من المصالح، وكان للآخذ أخذه، لأنّه من أهله وجرى مجرى الوقف على من يقوم بهذه المصالح‏.‏

الإمامة الكبرى

التّعريف

1 - ‏(‏الإمامة‏)‏‏:‏ مصدر أمّ القوم وأمّ بهم‏.‏ إذا تقدّمهم وصار لهم إماماً‏.‏ والإمام - وجمعه أئمّة -‏:‏ كلّ من ائتمّ به قوم سواء أكانوا على صراطٍ مستقيمٍ‏:‏ كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجعلناهم أئمّةً يهدون بأمرنا‏}‏ أم كانوا ضالّين كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجعلناهم أئمّةً يدعون إلى النّار ويوم القيامة لا ينصرون‏}‏‏.‏

ثمّ توسّعوا في استعماله، حتّى شمل كلّ من صار قدوةً في فنٍّ من فنون العلم‏.‏ فالإمام أبو حنيفة قدوة في الفقه، والإمام البخاريّ قدوة في الحديث‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ، غير أنّه إذا أطلق لا ينصرف إلاّ إلى صاحب الإمامة العظمى، ولا يطلق على الباقي إلاّ بالإضافة، لذلك عرّف الرّازيّ الإمام بأنّه‏:‏ كلّ شخصٍ يقتدى به في الدّين‏.‏

والإمامة الكبرى في الاصطلاح‏:‏ رئاسة عامّة في الدّين والدّنيا خلافةً عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم وسمّيت كبرى تمييزاً لها عن الإمامة الصّغرى، وهم إمامة الصّلاة وتنظر في موضعها‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - الخلافة‏:‏

2 - الخلافة في اللّغة‏:‏ مصدر خلف يخلف خلافةً‏:‏ أي‏:‏ بقي بعده أو قام مقامه، وكلّ من يخلف شخصاً آخر يسمّى خليفةً، لذلك سمّي من يخلف الرّسول صلى الله عليه وسلم في إجراء الأحكام الشّرعيّة ورئاسة المسلمين في أمور الدّين والدّنيا خليفةً، ويسمّى المنصب خلافةً وإمامةً‏.‏

أمّا في الاصطلاح الشّرعيّ‏:‏ فهي ترادف الإمامة، وقد عرّفها ابن خلدونٍ بقوله‏:‏ هي حمل الكافّة على مقتضى النّظر الشّرعيّ، في مصالحهم الأخرويّة، والدّنيويّة الرّاجعة إليها، ثمّ فسّر هذا التّعريف بقوله‏:‏ فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشّرع في حراسة الدّين والدّنيا‏.‏

ب - الإمارة‏:‏

3 - الإمارة لغةً‏:‏ الولاية، والولاية إمّا أن تكون عامّةً، فهي الخلافة أو الإمامة العظمى، وإمّا أن تكون خاصّةً على ناحيةٍ كأن ينال أمر مصرٍ ونحوه، أو على عملٍ خاصٍّ من شئون الدّولة كإمارة الجيش وإمارة الصّدقات، وتطلق على منصبٍ أمير‏.‏

ج - السّلطة‏:‏

4 - السّلطة هي‏:‏ السّيطرة والتّمكّن والقهر والتّحكّم ومنه السّلطان وهو من له ولاية التّحكّم والسّيطرة في الدّولة، فإن كانت سلطته قاصرةً على ناحيةٍ خاصّةٍ فليس بخليفةٍ، وإن كانت عامّةً فهو الخليفة، وقد وجدت في العصور الإسلاميّة المختلفة خلافة بلا سلطةٍ، كما وقع في أواخر العبّاسيّين، وسلطة بلا خلافةٍ كما كان الحال في عهد المماليك ‏.‏

د - الحكم‏:‏

5 - الحكم هو في اللّغة‏:‏ القضاء، يقال‏:‏ حكم له وعليه وحكم بينهما، فالحاكم هو القاضي في عرف اللّغة والشّرع‏.‏

وقد تعارف النّاس في العصر الحاضر على إطلاقه على من يتولّى السّلطة العامّة‏.‏

الحكم التّكليفي

6 - أجمعت الأمّة على وجوب عقد الإمامة، وعلى أنّ الأمّة يجب عليها الانقياد لإمامٍ عادلٍ، يقيم فيهم أحكام اللّه، ويسوسهم بأحكام الشّريعة الّتي أتى بها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ولم يخرج عن هذا الإجماع من يعتدّ بخلافه‏.‏

واستدلّوا لذلك، بإجماع الصّحابة والتّابعين، وقد ثبت أنّ الصّحابة رضي الله عنهم، بمجرّد أن بلغهم نبأ وفاة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بادروا إلى عقد اجتماعٍ في سقيفة بني ساعدةٍ، واشترك في الاجتماع كبار الصّحابة، وتركوا أهمّ الأمور لديهم في تجهيز رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وتشييع جثمانه الشّريف، وتداولوا في أمر خلافته‏.‏

وهم، وإن اختلفوا في بادئ الأمر حول الشّخص الّذي ينبغي أن يبايع، أو على الصّفات الّتي ينبغي أن تتوفّر فيمن يختارونه، فإنّهم لم يختلفوا في وجوب نصب إمامٍ للمسلمين، ولم يقل أحد مطلقاً إنّه لا حاجة إلى ذلك، وبايعوا أبا بكرٍ رضي الله عنه، ووافق بقيّة الصّحابة الّذين لم يكونوا حاضرين في السّقيفة، وبقيت هذه السّنّة في كلّ العصور، فكان ذلك إجماعاً على وجوب نصب الإمام‏.‏

وهذا الوجوب وجوب كفايةٍ، كالجهاد ونحوه، فإذا قام بها من هو أهل لها سقط الحرج عن الكافّة، وإن لم يقم بها أحد، أثم من الأمّة فريقان‏:‏

أ - أهل الاختيار وهم‏:‏ أهل الحلّ والعقد من العلماء ووجوه النّاس، حتّى يختاروا إماماً للأمّة‏.‏

ب - أهل الإمامة وهم‏:‏ من تتوفّر فيهم شروط الإمامة، إلى أن ينصب أحدهم إماماً‏.‏

ما يجوز تسمية الإمام به

7 - اتّفق الفقهاء على جواز تسمية الإمام‏:‏ خليفةً، وإماماً، وأمير المؤمنين‏.‏

فأمّا تسميته إماماً فتشبيهاً بإمام الصّلاة في وجوب الاتّباع والاقتداء به فيما وافق الشّرع، ولهذا سمّي منصبه بالإمامة الكبرى‏.‏

وأمّا تسميته خليفةً فلكونه يخلف النّبيّ صلى الله عليه وسلم في حراسة الدّين وسياسة الدّنيا في الأمّة، فيقال خليفة بإطلاق، وخليفة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏.‏

واختلفوا في جواز تسميته خليفة اللّه، فذهب جمهور الفقهاء إلى عدم جواز تسميته بخليفة اللّه، لأنّ أبا بكرٍ رضي الله عنه نهى عن ذلك لمّا دعي به، وقال‏:‏ لست خليفة اللّه، ولكنّي خليفة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏.‏ ولأنّ الاستخلاف إنّما هو في حقّ الغائب، واللّه منزّه عن ذلك‏.‏ وأجازه بعضهم اقتباساً من الخلافة العامّة للآدميّين في قوله تعالى‏:‏

‏{‏إنّي جاعل في الأرض خليفةً‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏هو الّذي جعلكم خلائف في الأرض‏}‏‏.‏

معرفة الإمام باسمه وعينه

8 - لا تجب معرفة الإمام باسمه وعينه على كافّة الأمّة، وإنّما يلزمهم أن يعرفوا أنّ الخلافة أفضت إلى أهلها، لما في إيجاب معرفته عليهم باسمه وعينه من المشقّة والحرج، وإنّما يجب ذلك على أهل الاختيار الّذين تنعقد ببيعتهم الخلافة، وإلى هذا ذهب جمهور الفقهاء‏.‏

حكم طلب الإمامة

9 - يختلف الحكم باختلاف حال الطّالب، فإن كان لا يصلح لها إلاّ شخص وجب عليه أن يطلبها، ووجب على أهل الحلّ والعقد أن يبايعوه‏.‏

وإن كان يصلح لها جماعة صحّ أن يطلبها واحد منهم، ووجب اختيار أحدهم، وإلاّ أجبر أحدهم على قبولها جمعاً لكلمة الأمّة‏.‏ وإن كان هناك من هو أولى منه كره له طلبها، وإن كان غير صالحٍ لها حرم عليه طلبها‏.‏

شروط الإمامة

10 - يشترط الفقهاء للإمام شروطاً، منها ما هو متّفق عليه ومنها ما هو مختلف فيه‏.‏ فالمتّفق عليه من شروط الإمامة‏:‏

أ - الإسلام، لأنّه شرط في جواز الشّهادة‏.‏ وصحّة الولاية على ما هو دون الإمامة في الأهمّيّة‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولن يجعل اللّه للكافرين على المؤمنين سبيلاً‏}‏ والإمامة كما قال ابن حزمٍ‏:‏ أعظم ‏(‏السّبيل‏)‏، وليراعى مصلحة المسلمين‏.‏

ب - التّكليف‏:‏ ويشمل العقل، والبلوغ، فلا تصحّ إمامة صبيٍّ أو مجنونٍ، لأنّهما في ولاية غيرهما، فلا يليان أمر المسلمين، وجاء في الأثر «تعوّذوا باللّه من رأس السّبعين، وإمارة الصّبيان»‏.‏

ت - الذّكورة‏:‏ فلا تصحّ إمارة النّساء، لخبر‏:‏ «لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأةً» ولأنّ هذا المنصب تناط به أعمال خطيرة وأعباء جسيمة تتنافى مع طبيعة المرأة، وفوق طاقتها‏.‏ فيتولّى الإمام قيادة الجيوش ويشترك في القتال بنفسه أحياناً‏.‏

ث - الكفاية ولو بغيره، والكفاية هي الجرأة والشّجاعة والنّجدة، بحيث يكون قيّماً بأمر الحرب والسّياسة وإقامة الحدود والذّبّ عن الأمّة‏.‏

ج - الحرّيّة‏:‏ فلا يصحّ عقد الإمامة لمن فيه رقّ، لأنّه مشغول في خدمة سيّده‏.‏

ح - سلامة الحواسّ والأعضاء ممّا يمنع استيفاء الحركة للنّهوض بمهامّ الإمامة‏.‏ وهذا القدر من الشّروط متّفق عليه‏.‏

11 - أمّا المختلف فيه من الشّروط فهو‏:‏

أ - العدالة والاجتهاد‏.‏ ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ العدالة والاجتهاد شرطا صحّةٍ، فلا يجوز تقليد الفاسق أو المقلّد إلاّ عند فقد العدل والمجتهد‏.‏

وذهب الحنفيّة إلى أنّهما شرطا أولويّةٍ، فيصحّ تقليد الفاسق والعامّيّ، ولو عند وجود العدل والمجتهد‏.‏

ب - السّمع والبصر وسلامة اليدين والرّجلين‏.‏

ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّها شروط انعقادٍ، فلا تصحّ إمامة الأعمى والأصمّ ومقطوع اليدين والرّجلين ابتداءً، وينعزل إذا طرأت عليه، لأنّه غير قادرٍ على القيام بمصالح المسلمين، ويخرج بها عن أهليّة الإمامة إذا طرأت عليه‏.‏

وذهب بعض الفقهاء إلى أنّه لا يشترط ذلك، فلا يضرّ الإمام عندهم أن يكون في خلقه عيب جسديّ أو مرض منفّر، كالعمى والصّمم وقطع اليدين والرّجلين والجدع والجذام، إذ لم يمنع ذلك قرآن ولا سنّة ولا إجماع‏.‏

ج - النّسب‏:‏ ويشترط عند جمهور الفقهاء أن يكون الإمام قرشيّاً لحديث‏:‏ «الأئمّة من قريشٍ» وخالف في ذلك بعض العلماء منهم أبو بكرٍ الباقلّانيّ، واحتجّوا بقول عمر‏:‏‏"‏ لو كان سالم مولى أبي حذيفة حيّاً لولّيته ‏"‏، ولا يشترط أن يكون هاشميّاً ولا علويّاً باتّفاق فقهاء المذاهب الأربعة، لأنّ الثّلاثة الأول من الخلفاء الرّاشدين لم يكونوا من بني هاشمٍ، ولم يطعن أحد من الصّحابة في خلافتهم، فكان ذلك إجماعاً في عصر الصّحابة‏.‏

دوام الإمامة

12 - يشترط لدوام الإمامة دوام شروطها، وتزول بزوالها إلاّ العدالة، فقد اختلف في أثر زوالها على منصب الإمامة على النّحو التّالي‏:‏

عند الحنفيّة ليست العدالة شرطاً لصحّة الولاية، فيصحّ تقليد الفاسق الإمامة عندهم مع الكراهة، وإذا قلّد إنسان الإمامة حال كونه عدلاً، ثمّ جار في الحكم، وفسق بذلك أو غيره لا ينعزل، ولكن يستحقّ العزل إن لم يستلزم عزله فتنةً، ويجب أن يدعى له بالصّلاح ونحوه، ولا يجب الخروج عليه، كذا نقل الحنفيّة عن أبي حنيفة، وكلمتهم قاطبةً متّفقة في توجيهه على أنّ وجهه‏:‏ هو أنّ بعض الصّحابة رضي الله عنهم صلّوا خلف أئمّة الجور وقبلوا الولاية عنهم‏.‏ وهذا عندهم للضّرورة وخشية الفتنة‏.‏

وقال الدّسوقيّ‏:‏ يحرم الخروج على الإمام الجائر لأنّه لا يعزل السّلطان بالظّلم والفسق وتعطيل الحقوق بعد انعقاد إمامته، وإنّما يجب وعظه وعدم الخروج عليه، إنّما هو لتقديم أخفّ المفسدتين، إلاّ أن يقوم عليه إمام عدل، فيجوز الخروج عليه وإعانة ذلك القائم‏.‏ وقال الخرشيّ‏:‏ روى ابن القاسم عن مالكٍ‏:‏ إن كان الإمام مثل عمر بن عبد العزيز وجب على النّاس الذّبّ عنه والقتال معه، وأمّا غيره فلا، دعه وما يراد منه، ينتقم اللّه من الظّالم بظالمٍ، ثمّ ينتقم من كليهما‏.‏

وقال الماورديّ‏:‏ إنّ الجرح في عدالة الإمام، وهو الفسق على ضربين‏:‏

أحدهما ما تبع فيه الشّهوة، والثّاني ما تعلّق فيه بشبهةٍ‏.‏ فأمّا الأوّل منهما فمتعلّق بأفعال الجوارح، وهو ارتكابه للمحظورات وإقدامه على المنكرات تحكيماً للشّهوة وانقياداً للهوى، فهذا فسق يمنع من انعقاد الإمامة ومن استدامتها، فإذا طرأ على من انعقدت إمامته خرج منها، فلو عاد إلى العدالة لم يعد إلى الإمامة إلاّ بعقدٍ جديدٍ‏.‏ وقال بعض المتكلّمين‏:‏ يعود إلى الإمامة بعودة العدالة من غير أن يستأنف له عقد ولا بيعة، لعموم ولايته ولحوق المشقّة في استئناف بيعته‏.‏

وأمّا الثّاني منهما فمتعلّق بالاعتقاد المتأوّل بشبهةٍ تعترض، فيتأوّل لها خلاف الحقّ، فقد اختلف العلماء فيها‏:‏ فذهب فريق منهم إلى أنّها تمنع من انعقاد الإمامة ومن استدامتها، ويخرج منها بحدوثه لأنّه لمّا استوى حكم الكفر بتأويلٍ وغير تأويلٍ وجب أن يستوي حال الفسق بتأويلٍ وغير تأويلٍ‏.‏ وقال كثير من علماء البصرة‏:‏ إنّه لا يمنع من انعقاد الإمامة، ولا يخرج به منها، كما لا يمنع من ولاية القضاء وجواز الشّهادة‏.‏

وقال أبو يعلى‏:‏ إذا وجدت هذه الصّفات حالة العقد، ثمّ عدمت بعد العقد نظرت، فإن كان جرحاً في عدالته، وهو الفسق، فإنّه لا يمنع من استدامة الإمامة‏.‏ سواء كان متعلّقاً بأفعال الجوارح‏.‏ وهو ارتكاب المحظورات، وإقدامه على المنكرات اتّباعاً لشهوته، أو كان متعلّقاً بالاعتقاد، وهو المتأوّل لشبهةٍ تعرض يذهب فيها إلى خلاف الحقّ‏.‏ وهذا ظاهر كلامه ‏(‏أحمد‏)‏ في رواية المروزيّ في الأمير يشرب المسكر ويغلّ، يغزى معه، وقد كان يدعو المعتصم بأمير المؤمنين، وقد دعاه إلى القول بخلق القرآن‏.‏

وقال حنبل‏:‏ في ولاية الواثق اجتمع فقهاء بغداد إلى أبي عبد اللّه قالوا‏:‏ هذا أمر قد تفاقم وفشا - يعنون إظهار القول بخلق القرآن - نشاورك في أنّا لسنا نرضى بإمرته ولا سلطانه‏.‏ فقال‏:‏ عليكم بالنّكير بقلوبكم، ولا تخلعوا يداً من طاعةٍ، ولا تشقّوا عصا المسلمين‏.‏ وقال أحمد في رواية المروزيّ، وذكر الحسن بن صالح بن حيٍّ الزّيديّ فقال‏:‏ كان يرى السّيف، ولا نرضى بمذهبه‏.‏

ما تنعقد به الإمامة

تنعقد الإمامة بطرقٍ ثلاثةٍ، باتّفاق أهل السّنّة‏:‏

أوّلاً - البيعة‏:‏

13 - والمراد بالبيعة بيعة أهل الحلّ والعقد، وهم‏:‏ علماء المسلمين ورؤساؤهم ووجوه النّاس، الّذين يتيسّر اجتماعهم حالة البيعة بلا كلفةٍ عرفاً، ولكن هل يشترط عدد معيّن ‏؟‏ اختلف في ذلك الفقهاء، فنقل عن بعض الحنفيّة أنّه يشترط جماعة دون تحديد عددٍ معيّنٍ‏.‏ وذهب المالكيّة والحنابلة إلى أنّها لا تنعقد إلاّ بجمهور أهل الحلّ والعقد، بالحضور والمباشرة بصفقة اليد، وإشهاد الغائب منهم من كلّ بلدٍ، ليكون الرّضى به عامّاً، والتّسليم بإمامته إجماعاً‏.‏

وذهب الشّافعيّة إلى أنّه لا يشترط اتّفاق أهل الحلّ والعقد من سائر البلاد، لتعذّر ذلك وما فيه من المشقّة، وذكروا أقوالاً خمسةً في ذلك فقالت طائفة‏:‏ أقلّ ما تنعقد به الإمامة خمسة، يجتمعون على عقدها أو يعقد أحدهم برضى الباقين، واستدلّوا بخلافة أبي بكرٍ لأنّها انعقدت بخمسةٍ اجتمعوا عليها، ثمّ تابعهم النّاس فيها‏.‏ وجعل عمر الشّورى في ستّةٍ ليعقدوا لأحدهم برضى الخمسة‏.‏

وذهبت طائفة إلى أنّ الإمامة لا تنعقد بأقلّ من أربعين، لأنّها أشدّ خطراً من الجمعة، وهي لا تنعقد بأقلّ من أربعين، والرّاجح عندهم‏:‏ أنّه لا يشترط عدد معيّن، بل لا يشترط عدد، حتّى لو انحصرت أهليّة الحلّ والعقد بواحدٍ مطاعٍ كفت بيعته لانعقاد الإمامة، ولزم على النّاس الموافقة والمتابعة‏.‏

شروط أهل الاختيار

14 - يشترط الفقهاء لأهل الاختيار أموراً، هي‏:‏ العدالة بشروطها، والعلم بشروط الإمامة، والرّأي والحكمة والتّدبير‏.‏

ويزيد الشّافعيّة شرطاً آخر وهو‏:‏ أن يكون مجتهداً في أحكام الإمامة إن كان الاختيار من واحدٍ، وأن يكون فيهم مجتهد إن كان أهل الاختيار جماعةً‏.‏

ثانياً‏:‏ ولاية العهد‏:‏ ‏(‏الاستخلاف‏)‏‏:‏

15 - وهي‏:‏ عهد الإمام بالخلافة إلى من يصحّ إليه العهد ليكون إماماً بعده‏.‏ قال الماورديّ‏:‏ انعقاد الإمامة بعهد من قبله ممّا انعقد الإجماع على جوازه، ووقع الاتّفاق على صحّته، لأمرين عمل المسلمون بهما ولم يتناكروهما‏.‏

أحدهما‏:‏ أنّ أبا بكرٍ رضي الله عنه عهد بها إلى عمر رضي الله عنه، فأثبت المسلمون إمامته بعهده‏.‏

والثّاني‏:‏ أنّ عمر رضي الله عنه عهد بها إلى أهل الشّورى، فقبلت الجماعة دخولهم فيها، وهم أعيان العصر اعتقاداً لصحّة العهد بها وخرج باقي الصّحابة منها، وقال عليّ للعبّاس رضوان الله عليهما حين عاتبه على الدّخول في الشّورى‏:‏‏"‏ كان أمراً عظيماً في أمور الإسلام لم أر لنفسي الخروج منه ‏"‏‏.‏ فصار العهد بها إجماعاً في انعقاد الإمامة، فإذا أراد الإمام أن يعهد بها فعليه أن يجتهد رأيه في الأحقّ بها والأقوم بشروطها، فإذا تعيّن له الاجتهاد في واحدٍ نظر فيه‏:‏

فإن لم يكن ولداً ولا والداً جاز أن ينفرد بعقد البيعة له وبتفويض العهد إليه، وإن لم يستشر فيه أحداً من أهل الاختيار، لكن اختلفوا هل يكون ظهور الرّضى منهم شرطاً في انعقاد بيعته أو لا ‏؟‏ فذهب بعض علماء أهل البصرة إلى أنّ رضى أهل الاختيار لبيعته شرط في لزومها للأمّة، لأنّها حقّ يتعلّق بهم، فلم تلزمهم إلاّ برضى أهل الاختيار منهم، والصّحيح أنّ بيعته منعقدة وأنّ الرّضى بها غير معتبرٍ، لأنّ بيعة عمر رضي الله عنه لم تتوقّف على رضى الصّحابة، ولأنّ الإمام أحقّ بها فكان اختياره فيها أمضى، وقوله فيها أنفذ‏.‏

وإن كان وليّ العهد ولداً أو والداً فقد اختلف في جواز انفراده بعقد البيعة له على ثلاثة مذاهب‏.‏

أحدهما‏:‏ لا يجوز أن ينفرد بعقد البيعة لولدٍ ولا لوالدٍ، حتّى يشاور فيه أهل الاختيار فيرونه أهلاً لها، فيصحّ منه حينئذٍ عقد البيعة له، لأنّ ذلك منه تزكية له تجري مجرى الشّهادة، وتقليده على الأمّة يجري مجرى الحكم، وهو لا يجوز أن يشهد لوالدٍ ولا لولدٍ، ولا يحكم لواحدٍ منهما للتّهمة العائدة إليه بما جبل من الميل إليه‏.‏

والمذهب الثّاني‏:‏ يجوز أن يفرد بعقدها لولدٍ، ووالدٍ، لأنّه أمير الأمّة نافذ الأمر لهم وعليهم‏.‏ فغلب حكم المنصب على حكم النّسب، ولم يجعل للتّهمة طريقاً على أمانته ولا سبيلاً إلى معارضته، وصار فيها كعهده بها إلى غير ولده ووالده، وهل يكون رضى أهل الاختيار بعد صحّة العهد معتبراً في لزومه للأمّة أو لا ‏؟‏ على ما قدّمناه من الوجهين‏.‏

والمذهب الثّالث‏:‏ أنّه يجوز أن ينفرد بعقد البيعة لوالده، ولا يجوز أن ينفرد بها لولده، لأنّ الطّبع يبعث على ممايلة الولد أكثر من ممّا يبعث على ممايلة الوالد، ولذلك كان كلّ ما يقتنيه في الأغلب مذخوراً لولده دون والده‏.‏

فأمّا عقدها لأخيه ومن قاربه من عصبته ومناسبيه فكعقدها للبعداء الأجانب في جواز تفرّده بها‏.‏ وقال ابن خلدونٍ، بعد أن قدّم الكلام في الإمامة ومشروعيّتها لما فيها من المصلحة، وأنّ حقيقتها للنّظر في مصالح الأمّة لدينهم ودنياهم‏.‏ قال‏:‏ فالإمام هو وليّهم والأمين عليهم، ينظر لهم ذلك في حياته، ويتبع ذلك أن ينظر لهم بعد مماته، ويقيم لهم من يتولّى أمورهم كما كان هو يتولّاها، ويثقون بنظره لهم في ذلك، كما وثقوا به فيما قبل، وقد عرف ذلك من الشّرع بإجماع الأمّة على جوازه وانعقاده، إذ وقع بعهد أبي بكرٍ رضي الله عنه لعمر بمحضرٍ من الصّحابة، وأجازوه، وأوجبوا على أنفسهم به طاعة عمر رضي الله عنه وعنهم، وكذلك عهد عمر في الشّورى إلى السّتّة بقيّة العشرة، وجعل لهم أن يختاروا للمسلمين، ففوّض بعضهم إلى بعضٍ، حتّى أفضى ذلك إلى عبد الرّحمن بن عوفٍ، فاجتهد وناظر المسلمين فوجدهم متّفقين على عثمان وعلى عليٍّ، فآثر عثمان بالبيعة على ذلك لموافقته إيّاه على لزوم الاقتداء بالشّيخين في كلّ ما يعرض له دون اجتهاده، فانعقد أمر عثمان لذلك، وأوجبوا طاعته، والملأ من الصّحابة حاضرون للأولى والثّانية، ولم ينكره أحد منهم، فدلّ على أنّهم متّفقون على صحّة هذا العهد، عارفون بمشروعيّته، والإجماع حجّة كما عرف، ولا يتّهم الإمام في هذا الأمر وإن عهد إلى أبيه أو ابنه، لأنّه مأمون على النّظر لهم في حياته، فأولى أن لا يحتمل فيها تبعةً بعد مماته، خلافاً لمن قال باتّهامه في الولد والوالد، أو لمن خصّص التّهمة بالولد دون الوالد، فإنّه بعيد عن الظّنّة في ذلك كلّه، لا سيّما إذا كانت هناك داعية تدعو إليه من إيثار مصلحةٍ أو توقّع مفسدةٍ فتنتفي الظّنّة في ذلك رأساً‏.‏

هذا، وللإمام أن يجعلها شورى بين اثنين فأكثر من أهل الإمامة، فيتعيّن من عيّنوه بعد موت الإمام، لأنّ عمر رضي الله عنه جعل الأمر شورى بين ستّةٍ، فاتّفقوا على عثمان رضي الله عنه، فلم يخالف من الصّحابة أحد، فكان ذلك إجماعاً‏.‏

استخلاف الغائب

16 - صرّح الفقهاء بأنّه يصحّ استخلاف غائبٍ عن البلد، إن علم حياته، ويستقدم بعد موت الإمام، فإن طال غيابه وتضرّر المسلمون بغيابه يجوز لأهل الاختيار نصب نائبٍ عنه، وينعزل النّائب بقدومه‏.‏

شروط صحّة ولاية العهد

17 - يشترط جمهور الفقهاء لصحّة ولاية العهد شروطاً منها‏:‏

أ - أن يكون المستخلف جامعاً لشروط الإمامة، فلا يصحّ الاستخلاف من الإمام الفاسق أو الجاهل‏.‏

ب - أن يقبل وليّ العهد في حياة الإمام، فإن تأخّر قبوله عن حياة الإمام تكون وصيّةً بالخلافة، فيجري فيها أحكام الوصيّة، وعند الشّافعيّة قول ببطلان الوصيّة في الاستخلاف، لأنّ الإمام يخرج عن الولاية بالموت‏.‏

ج - أن يكون وليّ العهد مستجمعاً لشروط الإمامة، وقت عهد الولاية إليه، مع استدامتها إلى ما بعد موت الإمام، فلا يصحّ - عند جمهور الفقهاء - عهد الولاية إلى صبيٍّ أو مجنونٍ أو فاسقٍ وإن كملوا بعد وفاة الإمام، وتبطل بزوال أحد الشّروط من وليّ العهد في حياة الإمام‏.‏ وذهب الحنفيّة إلى جواز العهد إلى صبيٍّ وقت العهد، ويفوّض الأمر إلى والٍ يقوم به، حتّى يبلغ وليّ العهد‏.‏ وصرّحوا أيضاً بأنّه إذا بلغ جدّدت بيعته وانعزل الوالي المفوّض عنه ببلوغه‏.‏

ثالثاً‏:‏ الاستيلاء بالقوّة‏:‏

18 - قال الماورديّ‏:‏ اختلف أهل العلم في ثبوت إمامة المتغلّب وانعقاد ولايته بغير عقدٍ ولا اختيارٍ، فذهب بعض فقهاء العراق إلى ثبوت ولايته، وانعقاد إمامته، وحمل الأمّة على طاعته وإن لم يعقدها أهل الاختيار، لأنّ مقصود الاختيار تمييز المولّى، وقد تميّز هذا بصفته‏.‏ وذهب جمهور الفقهاء والمتكلّمين إلى أنّ إمامته لا تنعقد إلاّ بالرّضى والاختيار، لكن يلزم أهل الاختيار عقد الإمامة له، فإن توقّفوا أثموا لأنّ الإمامة عقد لا يتمّ إلاّ بعاقدٍ‏.‏ وقال أبو يعلى‏:‏ الإمامة تنعقد من وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ باختيار أهل الحلّ والعقد‏.‏

والثّاني‏:‏ بعهد الإمام من قبل‏.‏

فأمّا انعقادها باختيار أهل الحلّ والعقد، فلا تنعقد إلاّ بجمهور أهل الحلّ والعقد‏.‏ قال أحمد، في رواية إسحاق بن إبراهيم‏:‏ الإمام‏:‏ الّذي يجتمع عليه، كلّهم يقول‏:‏ هذا إمام‏.‏

وظاهر هذا‏:‏ أنّها تنعقد بجماعتهم‏.‏

وروي عنه ما دلّ على أنّها تثبت بالقهر والغلبة، ولا تفتقر إلى العقد‏.‏ فقال في رواية عبدوس بن مالكٍ العطّار‏:‏ ومن غلب عليهم بالسّيف حتّى صار خليفةً وسمّي أمير المؤمنين، فلا يحلّ لأحدٍ يؤمن باللّه واليوم الآخر أن يبيت ولا يراه إماماً، برّاً كان أو فاجراً‏.‏ وقال أيضاً في رواية أبي الحارث - في الإمام يخرج عليه من يطلب الملك، فيكون مع هذا قوم ومع هذا قوم -‏:‏ تكون الجمعة مع من غلب واحتجّ بأنّ ابن عمر صلّى بأهل المدينة في زمن الحرّة‏.‏ وقال‏:‏‏"‏ نحن مع من غلب ‏"‏‏.‏

وجه الرّواية الأولى‏:‏ أنّه لمّا اختلف المهاجرون والأنصار، فقالت الأنصار‏:‏‏"‏ منّا أمير ومنكم أمير ‏"‏ حاجّهم عمر، وقال لأبي بكرٍ رضي الله عنهما‏:‏‏"‏ مدّ يدك أبايعك ‏"‏فلم يعتبر الغلبة واعتبر العقد مع وجود الاختلاف‏.‏

ووجه الثّانية‏:‏ ما ذكره أحمد عن ابن عمر وقوله‏:‏ نحن مع من غلب ولأنّها لو كانت تقف على عقدٍ لصحّ رفعه وفسخه بقولهم وقوله، كالبيع وغيره من العقود، ولمّا ثبت أنّه ‏(‏أي المتغلّب‏)‏ لو عزل نفسه أو عزلوه لم ينعزل، دلّ على أنّه لا يفتقر إلى عقده‏.‏

ولأنّ عبد الملك بن مروان خرج على ابن الزّبير واستولى على البلاد وأهلها، حتّى بايعوه طوعاً وكرهاً، فصار إماماً يحرم الخروج عليه، ولما في الخروج عليه من شقّ عصا المسلمين، وإراقة دمائهم، وذهاب أموالهم‏.‏ ولخبر‏:‏ «اسمعوا وأطيعوا وإن أمّر عليكم عبد حبشيّ أجدع»‏.‏ وإلى هذا ذهب جمهور الفقهاء‏.‏

وذكر الشّافعيّة قولاً‏:‏ يشترط لصحّة إمامة المتغلّب استجماع شروط الإمامة‏.‏ كما يشترط الشّافعيّة أيضاً‏:‏ أن يستولي على الأمر بعد موت الإمام المبايع له، وقبل نصب إمامٍ جديدٍ بالبيعة، أو أن يستولي على حيٍّ متغلّبٍ مثله‏.‏ أمّا إذا استولى على الأمر وقهر إماماً مولًّى بالبيعة أو بالعهد فلا تثبت إمامته، ويبقى الإمام المقهور على إمامته شرعاً‏.‏

اختيار المفضول مع وجود الأفضل

19 - اتّفق الفقهاء على أنّه إذا تعيّن لأهل الاختيار واحد هو أفضل الجماعة، فبايعوه على الإمامة، فظهر بعد البيعة من هو أفضل منه، انعقدت بيعتهم إمامة الأوّل ولم يجز العدول عنه إلى من هو أفضل منه‏.‏ كما اتّفقوا على أنّه لو ابتدءوا بيعة المفضول مع وجود الأفضل لعذرٍ، ككون الأفضل غائباً أو مريضاً، أو كون المفضول أطوع في النّاس، وأقرب إلى قلوبهم، انعقدت بيعة المفضول وصحّت إمامته، ولو عدلوا عن الأفضل في الابتداء لغير عذرٍ لم يجز‏.‏

أمّا الانعقاد فقد اختلفوا في انعقاد بيعة المفضول مع وجود الأفضل بغير عذرٍ، فذهبت طائفة إلى أنّ بيعته لا تنعقد، لأنّ الاختيار إذا دعا إلى أولى الأمرين لم يجز العدول عنه إلى غيره‏.‏ وذهب الأكثر من الفقهاء والمتكلّمين إلى أنّ الإمامة جائزة للمفضول مع وجود الأفضل، وصحّت إمامته إذا توفّرت فيه شروط الإمامة‏.‏ كما يجوز في ولاية القضاء تقليد المفضول مع وجود الأفضل لأنّ زيادة الفضل مبالغة في الاختيار، وليست شرطاً فيه‏.‏ وقال أبو بكرٍ يوم السّقيفة‏:‏ قد رضيت لكم أحد هذين الرّجلين‏:‏ أبي عبيدة بن الجرّاح، وعمر بن الخطّاب‏.‏ وهما - على فضلهما دون أبي بكرٍ في الفضل، ولم ينكره أحد‏.‏

ودعت الأنصار إلى بيعة سعدٍ، ولم يكن أفضل الصّحابة بالاتّفاق، ثمّ عهد عمر رضي الله عنه إلى ستّةٍ من الصّحابة، ولا بدّ أن يكون بعضهم أفضل من بعضٍ‏.‏

وقد أجمع أهل الإسلام حينئذٍ على أنّه لو بويع أحدهم فهو الإمام الواجب طاعته‏.‏ فصحّ بذلك إجماع الصّحابة رضي الله عنهم، على جواز إمامة المفضول‏.‏

عقد البيعة لإمامين

20 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه لا يجوز كون إمامين في العالم في وقتٍ واحدٍ، ولا يجوز إلاّ إمام واحد‏.‏ واستدلّوا بخبر‏:‏ «إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما»‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأطيعوا اللّه ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا‏}‏‏.‏

ووجه الاستدلال‏:‏ أنّ اللّه سبحانه وتعالى‏:‏ حرّم على المسلمين التّفرّق والتّنازع، وإذا كان إمامان فقد حصل التّفرّق المحرّم، فوجد التّنازع ووقعت المعصية للّه تعالى‏.‏

فإن عقدت لاثنين معاً بطلت فيهما، أو مرتّباً فهي للسّابق منهما‏.‏ ويعزّر الثّاني ومبايعوه‏.‏ لخبر‏:‏ «إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما»‏.‏ وإن جهل السّابق منهما بطل العقد فيهما عند الشّافعيّة، لامتناع تعدّد الأئمّة، وعدم المرجّح لأحدهما‏.‏

وعند الإمام أحمد روايتان‏:‏ إحداهما‏:‏ بطلان العقد، والثّانية‏:‏ استعمال القرعة‏.‏

وذهب المالكيّة إلى أنّه إذا تباعدت البلاد، وتعذّرت الاستنابة، جاز تعدّد الأئمّة بقدر الحاجة، وهو قول عند الشّافعيّة‏.‏‏.‏

طاعة الإمام

21 - اتّفقت الأمّة جمعاء على وجوب طاعة الإمام العادل وحرمة الخروج عليه للأدلّة الواردة في ذلك كخبر‏:‏ «من بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر»‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيّها الّذين آمنوا أطيعوا اللّه وأطيعوا الرّسول وأولي الأمر منكم‏}‏ وحديث‏:‏ «من خرج من الطّاعة، وفارق الجماعة فمات، مات ميتةً جاهليّةً»‏.‏

أمّا حكم الخروج على الجائر من الأئمّة فقد سبق بيانه عند الكلام عن دوام الإمامة‏.‏

ويدعو للإمام بالصّلاح والنّصرة وإن كان فاسقاً‏.‏ ويكره تحريماً وصفه بما ليس فيه من الصّفات كالصّالح والعادل، كما يحرم أن يوصف بما لا يجوز وصف العباد به‏.‏ مثل شاهنشاه الأعظم، ومالك رقاب النّاس، لأنّ الأوّل من صفات اللّه فلا يجوز وصف العباد به، والثّاني كذب‏.‏

من ينعزل بموت الإمام

22 - لا ينعزل بموت الإمام من عيّنه الإمام في وظيفةٍ عامّةٍ كالقضاة، وأمراء الأقاليم، ونظّار الوقف، وأمين بيت المال، وأمير الجيش‏.‏ وهذا محلّ اتّفاقٍ بين الفقهاء، لأنّ الخلفاء الرّاشدين - رضي الله عنهم - ولّوا حكّاماً في زمنهم، فلم ينعزل أحد بموت الإمام، ولأنّ الخليفة أسند إليهم الوظائف نيابةً عن المسلمين، لا نوّاباً عن نفسه، فلا ينعزلون بموته، وفي انعزالهم ضرر على المسلمين وتعطيل للمصالح‏.‏

أمّا الوزراء فينعزلون بموت الإمام وانعزاله، لأنّ الوزارة نيابة عن الإمام فينعزل النّائب بموت المستنيب‏.‏ لأنّ الإمام استناب الوزير ليعينه في أمور الخلافة‏.‏

عزل الإمام وانعزاله

23 - سبق نقل كلام الماورديّ في مسألة عزل الإمام لطروء الفسق والجور عند الكلام عن دوام الإمام‏.‏ ثمّ قال الماورديّ‏:‏ أمّا ما طرأ على بدنه من نقصٍ فينقسم ثلاثة أقسامٍ‏:‏

أحدها‏:‏ نقص الحواسّ، والثّاني‏:‏ نقص الأعضاء، والثّالث‏:‏ نقص التّصرّف‏.‏

فأمّا نقص الحواسّ فينقسم ثلاثة أقسامٍ‏:‏ قسم يمنع من الإمامة، وقسم لا يمنع منها، وقسم مختلف فيه‏.‏

فأمّا القسم المانع منها فشيئان‏:‏ أحدهما‏:‏ زوال العقل‏.‏ والثّاني‏:‏ ذهاب البصر‏.‏

فأمّا زوال العقل فضربان‏:‏ أحدهما‏:‏ ما كان عارضاً مرجوّ الزّوال كالإغماء، فهذا لا يمنع من انعقاد الإمامة ولا يخرج منها، لأنّه مرض قليل اللّبث سريع الزّوال،«وقد أغمي على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في مرضه»‏.‏

والضّرب الثّاني‏:‏ ما كان لازماً لا يرجى زواله كالجنون والخبل، فهو على ضربين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن يكون مطبقاً دائماً لا يتخلّله إفاقة، فهذا يمنع من عقد الإمامة واستدامتها، فإذا طرأ هذا بطلت به الإمامة بعد تحقّقه والقطع به،

والضّرب الثّاني‏:‏ أن يتخلّله إفاقة يعود بها إلى حال السّلامة فينظر فيه‏:‏ فإن كان زمان الخبل أكثر من زمان الإفاقة فهو كالمستديم يمنع من عقد الإمامة واستدامتها، ويخرج بحدوثه منها، وإن كان زمان الإفاقة أكثر من زمان الخبل منع من عقد الإمامة‏.‏

واختلف في منعه من استدامتها، فقيل‏:‏ يمنع من استدامتها كما يمنع من ابتدائها، فإذا طرأ بطلت به الإمامة، لأنّ في استدامته إخلالاً بالنّظر المستحقّ فيه، وقيل‏:‏ لا يمنع من استدامة الإمامة، وإن منع من عقدها في الابتداء، لأنّه يراعى في ابتداء عقدها سلامة كاملة، وفي الخروج منها نقص كامل‏.‏

وأمّا ذهاب البصر فيمنع من عقد الإمامة واستدامتها، فإذا طرأ بطلت به الإمامة، لأنّه لمّا أبطل ولاية القضاء، ومنع من جواز الشّهادة، فأولى أن يمنع من صحّة الإمامة‏.‏

وأمّا غشاء العين، وهو‏:‏ ألاّ يبصر عند دخول اللّيل، فلا يمنع من الإمامة في عقدٍ ولا استدامةٍ، لأنّه مرض في زمان الدّعة يرجى زواله‏.‏

وأمّا ضعف البصر، فإن كان يعرف به الأشخاص إذا رآها لم يمنع من الإمامة، وإن كان يدرك الأشخاص ولا يعرفها منع من الإمامة عقداً واستدامةً‏.‏

وأمّا القسم الثّاني من الحواسّ، الّتي لا يؤثّر فقدها في الإمامة فشيئان‏:‏ أحدهما‏:‏ الخشم في الأنف الّذي يدرك به شمّ الرّوائح‏.‏ والثّاني‏:‏ فقد الذّوق الّذي يفرّق به بين الطّعوم‏.‏ فلا يؤثّر هذا في عقد الإمامة، لأنّهما يؤثّران في اللّذّة، ولا يؤثّران في الرّأي والعمل‏.‏

وأمّا القسم الثّالث من الحواسّ المختلف فيها فشيئان‏:‏ الصّمم، والخرس، فيمنعان من ابتداء عقد الإمامة، لأنّ كمال الأوصاف بوجودهما مفقود‏.‏

واختلف في الخروج بهما من الإمامة، فقالت طائفة‏:‏ يخرج بهما منها كما يخرج بذهاب البصر لتأثيرهما في التّدبير والعمل، وقال آخرون‏:‏ لا يخرج بهما من الإمامة، لقيام الإشارة مقامهما، فلم يخرج منها إلاّ بنقصٍ كاملٍ‏.‏ وقال آخرون‏:‏ إن كان يحسن الكتابة لم يخرج بهما من الإمامة، وإن كان لا يحسنها خرج من الإمامة بهما، لأنّ الكتابة مفهومة والإشارة موهومة، والأوّل من المذاهب أصحّ‏.‏

وأمّا تمتمة اللّسان، وثقل السّمع، مع إدراك الصّوت إذا كان عالياً، فلا يخرج بهما من الإمامة إذا حدثا‏.‏ واختلف في ابتداء عقدها معهما، فقيل‏:‏ يمنع ذلك ابتداء عقدها، لأنّهما نقص يخرج بهما عن حال الكمال، وقيل‏:‏ لا يمنع، لأنّ نبيّ اللّه موسى عليه السلام لم تمنعه عقدة لسانه عن النّبوّة فأولى ألاّ يمنع من الإمامة‏.‏

وأمّا فقد الأعضاء فينقسم إلى أربعة أقسامٍ‏:‏

أحدها‏:‏ ما لا يمنع من صحّة الإمامة في عقدٍ ولا استدامةٍ، وهو ما لا يؤثّر فقده في رأيٍ ولا عملٍ ولا نهوضٍ ولا يشين في المنظر، فلا يمنع من عقد الإمامة ولا من استدامتها بعد العقد، لأنّ فقده لا يؤثّر في الرّأي والحنكة‏.‏ مثل قطع الأذنين لأنّهما لا يؤثّران في رأيٍ ولا عملٍ، ولهما شين يمكن أن يستتر فلا يظهر‏.‏

والقسم الثّاني‏:‏ ما يمنع من عقد الإمامة ومن استدامتها‏:‏ وهو ما يمنع من العمل، كذهاب اليدين، أو من النّهوض كذهاب الرّجلين، فلا تصحّ معه الإمامة في عقدٍ ولا استدامةٍ، لعجزه عمّا يلزمه من حقوق الأمّة في عملٍ أو نهضةٍ‏.‏

والقسم الثّالث‏:‏ ما يمنع من عقد الإمامة‏:‏ واختلف في منعه من استدامتها، وهو ما ذهب به بعض العمل، أو فقد به بعض النّهوض كذهاب إحدى اليدين أو إحدى الرّجلين، فلا يصحّ معه عقد الإمامة لعجزه عن كمال التّصرّف، فإن طرأ بعد عقد الإمامة ففي خروجه منها مذهبان للفقهاء‏:‏

أحدهما‏:‏ يخرج به من الإمامة، لأنّه عجز يمنع من ابتدائها فمنع من استدامتها‏.‏

والمذهب الثّاني‏:‏ أنّه لا يخرج به من الإمامة وإن منع من عقدها، لأنّ المعتبر في عقدها كمال السّلامة، وفي الخروج منها كمال النّقص‏.‏

والقسم الرّابع‏:‏ ما لا يمنع من استدامة الإمامة‏.‏ واختلف في منعه من ابتداء عقدها، وهو ما يشين ويقبّح، ولا يؤثّر في عملٍ ولا في نهضةٍ، كجدع الأنف وسمل إحدى العينين، فلا يخرج به من الإمامة بعد عقدها، لعدم تأثيره في شيءٍ من حقوقها، وفي منعه من ابتداء عقدها مذهبان للفقهاء‏:‏

أحدهما‏:‏ أنّه لا يمنع من عقدها، وليس ذلك من الشّروط المعتبرة فيها لعدم تأثيره في حقوقها‏.‏

والمذهب الثّاني‏:‏ أنّه يمنع من عقد الإمامة، وتكون السّلامة منه شرطاً معتبراً في عقدها ليسلم ولاة الملّة من شينٍ يعاب ونقصٍ يزدرى، فتقلّ به الهيبة، وفي قلّتها نفور عن الطّاعة، وما أدّى إلى هذا فهو نقص في حقوق الأمّة‏.‏

وأمّا نقص التّصرّف فضربان‏:‏ حجر، وقهر‏.‏

فأمّا الحجر‏:‏ فهو أن يستولي عليه من أعوانه من يستبدّ بتنفيذ الأمور من غير تظاهرٍ بمعصيةٍ ولا مجاهرةٍ بمشاقّةٍ، فلا يمنع ذلك من إمامته، ولا يقدح في صحّة ولايته‏.‏

وأمّا القهر فهو أن يصير مأسوراً في يد عدوٍّ قاهرٍ لا يقدر على الخلاص منه، فيمنع ذلك عن عقد الإمامة له، لعجزه عن النّظر في أمور المسلمين، وسواء كان العدوّ مشركاً أو مسلماً باغياً، وللأمّة اختيار من عداه من ذوي القدرة‏.‏ وإن أسر بعد أن عقدت له الإمامة فعلى كافّة الأمّة استنقاذه، لما أوجبته الإمامة من نصرته، وهو على إمامته ما كان مرجوّ الخلاص مأمول الفكاك إمّا قتال أو فداء، فإن وقع اليأس منه، لم يخل حال من أسره من أن يكونوا مشركين أو بغاة المسلمين، فإن كان في أسر المشركين خرج من الإمامة لليأس من خلاصه، واستأنف أهل الاختيار بيعة غيره على الإمامة، وإن خلص قبل الإياس فهو على إمامته‏.‏ وإن كان مأسوراً مع بغاة المسلمين، فإن كان مرجوّ الخلاص فهو على إمامته، وإن لم يرج خلاصه، فالإمام المأسور في أيديهم خارج من الإمامة بالإياس من خلاصه، وعلى أهل الاختيار في دار العدل أن يعقدوا الإمامة لمن ارتضوا لها، فإن خلص المأسور لم يعد إلى الإمامة لخروجه منها‏.‏

واجبات الإمام

24 - من تعريف الفقهاء للإمامة الكبرى بأنّها رئاسة عامّة في سياسة الدّنيا وإقامة الدّين نيابةً عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم يتبيّن أنّ واجبات الإمام إجمالاً هي كما يلي‏:‏

أ - حفظ الدّين على أصوله الثّابتة بالكتاب والسّنّة وإجماع سلف الأمّة وإقامة شعائر الدّين‏.‏

ب - رعاية مصالح المسلمين بأنواعها‏.‏

كما أنّهم - في معرض الاستدلال لفرضيّة نصب الإمام بالحاجة إليه - يذكرون أموراً لا بدّ للأمّة ممّن يقوم بها وهي‏:‏ تنفيذ الأحكام، وإقامة الحدود، وسدّ الثّغور، وتجهيز الجيوش، وأخذ الصّدقات، وقبول الشّهادات، وتزويج الصّغار والصّغائر الّذين لا أولياء لهم، وقسمة الغنائم‏.‏ وعدّها أصحاب كتب الأحكام السّلطانيّة عشرةً‏.‏ ولا تخرج في عمومها عمّا ذكره الفقهاء فيما مرّ، على أنّ ذلك يزيد وينقص بحسب تجدّد الحاجات الزّمنيّة وما تقضي المصالح بأن لا يتولّاه الأفراد والهيئات، بل يتولّاه الإمام‏.‏

ولايات الإمام

25 - الولاة من قبل الإمام تنقسم ولايتهم إلى أربعة أقسامٍ‏:‏

أ - ولاية عامّة في الأعمال العامّة، وهي‏:‏ الوزارة، فهي نيابة عن الإمام في الأمور كلّها من غير تخصيصٍ‏.‏

ب - ولاية عامّة في أعمالٍ خاصّةٍ، وهي الإمارة في الأقاليم، لأنّ النّظر فيما خصّ بها عامّ في جميع الأمور‏.‏

ج - ولاية خاصّة في الأعمال العامّة‏:‏ كرئاسة القضاء ونقابة الجيش، لأنّ كليهما مقصور على نظرٍ خاصٍّ في جميع الأعمال‏.‏

د - ولاية خاصّة في أعمالٍ خاصّةٍ كقاضي بلدٍ، أو مستوفي خراجه، وجابي صدقاته، لأنّ كلّاً من ولاية هؤلاء خاصّ بعملٍ مخصوصٍ لا يتجاوزه،

والتّفصيل في مصطلحي‏:‏ ‏(‏وزارة، إمارة‏)‏

مؤاخذة الإمام بتصرّفاته

26 - يضمن الإمام ما أتلفه بيده من مالٍ أو نفسٍ بغير خطأٍ في الحكم أو تقصيرٍ في تنفيذ الحدّ والتّعزير كآحاد النّاس فيقتصّ منه إن قتل عمداً، وتجب الدّية عليه أو على عاقلته أو بيت المال في الخطأ وشبه العمد، ويضمن ما أتلفه بيده من مالٍ، كما يضمن ما هلك بتقصيره في الحكم، وإقامة الحدّ، والتّعزير‏.‏ بالقصاص أو الدّية من ماله أو عاقلته أو بيت المال حسب أحكام الشّرع، وحسب ظروف التّقصير وجسامة الخطأ‏.‏ وينظر التّفصيل في مصطلحات‏:‏ ‏(‏حدّ، وتعزير، وقصاص، وضمان‏)‏‏.‏

وهذا القدر متّفق عليه بين الفقهاء، لعموم الأدلّة، ولأنّ المؤمنين تتكافأ دماؤهم، وأموالهم معصومة إلاّ بحقّها، وثبت «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أقاد من نفسه» وكان عمر رضي الله عنه يقيد من نفسه‏.‏ والإمام والمعتدى عليه نفسان معصومتان كسائر الرّعيّة‏.‏ واختلفوا في إقامة الحدّ عليه، فذهب الشّافعيّة إلى أنّه يقام عليه الحدّ كما يقام على سائر النّاس لعموم الأدلّة، ويتولّى التّنفيذ عليه من يتولّى الحكم عنه‏.‏

وذهب الحنفيّة إلى أنّه لا يقام عليه الحدّ، لأنّ الحدّ حقّ اللّه تعالى، والإمام نفسه هو المكلّف بإقامته، ولا يمكن أن يقيمه على نفسه، لأنّ إقامته تستلزم الخزي والنّكال ولا يفعل أحد ذلك بنفسه، بخلاف حقّ العباد‏.‏ أمّا حدّ القذف فقالوا‏:‏ المغلّب فيه حقّ اللّه، فحكمه حكم سائر الحدود، فإقامته إليه كسائر الحدود‏.‏ ولا ولاية لأحدٍ عليه‏.‏ ليستوفيه، وفائدة الإيجاب الاستيفاء، فإذا تعذّر لم يجب‏.‏ وفرّقوا بين الحدّ، وبين القصاص وضمان المتلفات بأنّهما من حقوق العباد فيستوفيهما صاحب الحقّ، ولا يشترط القضاء، بل الإمكان والتّمكّن، ويحصل ذلك بتمكينه من نفسه، إن احتاج إلى منعةٍ‏.‏ فالمسلمون منعته، فبهم يقدر على الاستيفاء فكان الوجوب مفيداً‏.‏

هدايا الإمام لغيره

27 - هدايا الإمام لغيره إن كانت من ماله الخاصّ فلا يختلف حكمه عن غيره من الأفراد، وينظر في مصطلح‏:‏ ‏(‏هديّة‏)‏‏.‏

أمّا إن كانت من بيت المال، فإذا كان مقابلاً لعملٍ عامٍّ فهو رزق، وإن كان عطاءً شاملاً للنّاس من بيت المال فهو عطاء، وإن كانت الهديّة بمبادرةٍ من الإمام ميّز بها فرداً عن غيره فهي الّتي تسمّى ‏(‏جائزة السّلطان‏)‏ وقد اختلف فيها، فكرهها أحمد تورّعاً لما في بعض موارد بيت المال من الشّبهة، لكنّه نصّ على أنّها ليست بحرامٍ على آخذها، لغلبة الحلال على موارد بيت المال، وكرهها ابن سيرين لعدم شمولها للرّعيّة، وممّن تنزّه عن الأخذ منها حذيفة وأبو عبيدة ومعاذ وأبو هريرة وابن عمر‏.‏ هذا من حيث أخذ الجوائز‏.‏

أمّا من حيث تصرّف الإمام بالإعطاء فيجب أن يراعى فيه المصلحة العامّة للمسلمين دون اتّباع الهوى والتّشهّي، لأنّ تصرّف الإمام في الأموال العامّة وغيرها من أمور المسلمين منوط بالمصلحة‏.‏

قبول الإمام الهدايا

28 - لم يختلف العلماء في كراهية الهديّة إلى الأمراء‏.‏

ذكر ابن عابدين في حاشيته‏:‏ أنّ الإمام ‏(‏بمعنى الوالي‏)‏ لا تحلّ له الهديّة، للأدلّة - الواردة في هدايا العمّال ولأنّه رأس العمّال‏.‏

وقال ابن حبيبٍ‏:‏ لم يختلف العلماء في كراهية الهديّة إلى السّلطان الأكبر وإلى القضاة والعمّال وجباة الأموال‏.‏ وهذا قول مالكٍ ومن قبله من أهل العلم والسّنّة‏.‏ «وكان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يقبل الهديّة»، وهذا من خواصّه، والنّبيّ صلى الله عليه وسلم معصوم ممّا يتّقي على غيره منها، ولمّا ‏"‏ ردّ عمر بن عبد العزيز الهديّة، قيل له‏:‏ كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يقبلها، فقال‏:‏ كانت له هديّةً وهي لنا رشوة، لأنّه كان يتقرّب إليه لنبوّته لا لولايته، ونحن يتقرّب بها إلينا لولايتنا ‏"‏‏.‏

هدايا الكفّار للإمام

29 - لا يجوز للإمام قبول هديّةٍ من كفّارٍ أشرفت حصونهم على السّقوط بيد المسلمين، لما في ذلك من توهين المسلمين وتثبيط همّتهم‏.‏ أمّا إذا كانوا بقوّةٍ ومنعةٍ جاز له قبول هديّتهم‏.‏ وهي للإمام إن كانت من قريبٍ له، أو كانت مكافأةً، أو رجاء ثوابٍ ‏(‏أي مقابلٍ‏)‏‏.‏ وإن كانت من غير قريبٍ، وأهدى بعد دخول الإمام بلدهم فهي غنيمة‏.‏ وهم فيء قبل الدّخول في بلدهم‏.‏

هذا إذا كانت من الأفراد، أمّا إذا كانت من الطّاغية أي رئيسهم، فإنّها فيء إن أهدى قبل دخول المسلمين في بلدهم، وغنيمة بعد الدّخول فيه، وهذا التّفصيل للمالكيّة‏.‏ وعند أحمد‏:‏ يجوز للإمام قبول الهديّة من أهل الحرب، لأنّ «النّبيّ صلى الله عليه وسلم قبل هديّة المقوقس صاحب مصر»، فإن كان ذلك في حال الغزو فما أهداه الكفّار لأمير الجيش أو لبعض قوّاده فهو غنيمة، لأنّه لا يفعل ذلك إلاّ خوفاً من المسلمين، فأشبه ما لو أخذه قهراً‏.‏ وأمّا إن أهدى من دار الحرب، فهو لمن أهدى إليه سواء كان الإمام أو غيره، «لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قبل الهديّة منهم»، فكانت له دون غيره‏.‏ وعزا ابن قدامة هذا إلى الشّافعيّ أيضاً، ونقل عن الإمام أبي حنيفة‏:‏ أنّها للمهدى له بكلّ حالٍ، لأنّه خصّه بها، فأشبه ما لو أهدي له من دار الإسلام، وحكى في ذلك روايةً عن أحمد وذهب الشّافعيّة إلى أنّه لو أهدى مشرك إلى الأمير أو إلى الإمام هديّةً، والحرب قائمة فهي غنيمة، بخلاف ما لو أهدى قبل أن يرتحلوا عن دار الإسلام، فإنّه للمهدى إليه‏.‏

وقال عبد الغنيّ النّابلسيّ‏:‏ قال الماورديّ‏:‏ فنزاهته عنها أولى من قبولها، فإن قبلها جاز ولم يمنع، وهذا حكم الهدايا للقضاة، أمّا الهدايا للأئمّة فقد قال في الحاوي‏:‏ إنّها إن كانت من هدايا دار الإسلام فهي على ثلاثة أقسامٍ‏:‏

أحدها‏:‏ أن يهدي إليه من يستعين به على حقٍّ يستوفيه، أو على ظلمٍ يدفعه عنه، أو على باطلٍ يعينه عليه، فهذه الرّشوة المحرّمة‏.‏

الثّاني‏:‏ أن يهدي إليه من كان يهاديه قبل الولاية، فإن كان بقدر ما كان قبل الولاية لغير حاجةٍ عرضت فيجوز له قبولها، وإن اقترن بها حاجة عرضت إليه فيمنع من القبول عند الحاجة، ويجوز أن يقبلها بعد الحاجة‏.‏ وإن زاد في هديّته على قدر العادة لغير حاجةٍ، فإن كانت الزّيادة من جنس الهديّة جاز قبولها لدخولها في المألوف، وإن كانت من غير جنس الهديّة منع من القبول‏.‏

الثّالث‏:‏ أن يهدي إليه من لم يكن يهاديه قبل الولاية، فإن ‏(‏كان‏)‏ لأجل ولايته فهي رشوة، ويحرم عليه أخذها، وإن كان لأجل جميلٍ صدر ‏(‏له‏)‏ منه إمّا واجباً أو تبرّعاً فلا يجوز قبولها أيضاً‏.‏ وإن كان لا لأجل ولايةٍ، بل لمكافأةٍ على جميلٍ، فهذه هديّة بعث عليها جاه، فإن كافأه عليها جاز له قبولها، وإن لم يكافئ عليها فلا يقبلها لنفسه، وإن كانت من هدايا دار الحرب جاز له قبول هداياهم، وذكر الماورديّ في الأحكام السّلطانيّة قال‏:‏ والفرق بين الرّشوة والهديّة أنّ الرّشوة ما أخذت طلباً، والهديّة ما بذلت عفواً‏.‏

أثر فسق الإمام على ولايته الخاصّة

30 - اختلف الفقهاء في سلب الولاية الخاصّة عن الإمام بفسقه، فذهب الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة إلى أنّه لا يشترط - عندهم - العدالة في ولاية النّكاح أصلاً، حتّى يسلبها الفسق، فيزوّج بناته القاصرات بالولاية الخاصّة، يستوي في ذلك الإمام، وغيره من الأولياء‏.‏ وذهب الشّافعيّة إلى أنّ الولاية الخاصّة تسلب بالفسق، فلا يصحّ له تزويج بناته بالولاية الخاصّة كغيره من الفسقة، لخروجه بالفسق عن الولاية الخاصّة كأفراد النّاس، وإن لم يسلبه عن الولاية العامّة تعظيماً لشأن الإمامة، على أنّ في ذلك خلافاً سبق بيانه‏.‏

وتنتقل ولاية النّكاح إلى البعيد من العصبة، فإن لم توجد عصبة زوّجهنّ بالولاية العامّة كغيرهنّ ممّن لا وليّ لهنّ‏.‏ لحديث‏:‏ «السّلطان وليّ من لا وليّ له»‏.‏